السيد عباس نورالدين
للعرفان دورٌ كبير في إظهار عمق الدين الإسلامي وعظمة معارفه الروحية والغيبية؛ وهو بذلك يمثل فخرًا للمسلمين، خصوصًا عند التلاقي الحضاري والتنافس الثقافي.. كما أنّ كرامات العارفين الكبار وخوارقهم المذهلة كانت ولا تزال تبعث في نفس المسلم شعور العزة والتفوق الديني. ولا ننسى أدبيات العرفان وتراثه الفني الذي يظهر المسلمين كرواد كبار في عالم الفن والجمال والإنسانيات.
أجل، يبدو التراث العرفاني الذي تشكل عبر العصور درة تاج ثقافة المسلمين أينما كانوا، حيث يمنحهم فرصة استثنائية في عرض بضائعهم النفيسة على العالمين أينما رحلوا. فلا شيء يمكن أن يضاهيه في عالم الإلهيات والغيبيات والروحانيات في مختلف بلاد العالم. فهو أشبه بالسحر الذي يمكن أن يهيم فيه أي إنسان يبحث عن معاني الحياة العميقة.
الذين يخوضون معتركات التفاعل والتبادل والمواجهة الحضارية يمكنهم أن يشعروا بأنّهم يمتلكون أقوى أداة أو سلاح في العالم، إن هم عملوا على عرض العرفان الإسلامي باللغات الحية وأساليب البيان العصرية.
العرفان الإسلامي يحكي عن تميّز نوعي للمسلمين، سرعان ما يبعث الآخر على التساؤل حول سبب البون الشاسع بين حياة هؤلاء المسلمين ونمط عيشهم من جهة، وما يتضمنه هذا العرفان من روعة وجمال. ولذلك، يستنتج البعض بأنّ هذا العرفان لم يكن وليد هذه البيئة المناقضة له تمامًا، وإنّما جاء من مكانٍ آخر يتميز بالروحانية والنظام والهدوء والصفاء. ويسرع آخرون للاستنتاج بأنّ العرفان الإسلامي ليس سوى ترجمة ذكية لغنوصيات وقباليات ولاهوتيات أجنبية؛ فكيف إذا لاحظ مستوى الرفض والنبذ والتنكر لتراثه بين عددٍ لا يُستهان به من زعماء المسلمين الدينيين والروحيين!

وفي ظل هذا التعاند والتضاد بين ثقافة المسلمين العامة وأجواء رجال دينهم وبين العرفان، سيبقى هذا التراث محصورًا بعددٍ قليل جدًا من الذين يمكن أن يغوص بعضهم في أعماق تجربته الروحية ورحلته الشهودية.
الدارس للعرفان يدرك جيدًا حجم تفوق العرفان الإسلامي معرفيًّا، قياسًا بكل العلوم الأخرى التي ابتكرها المسلمون أو طوروها بعد نقلها وترجمتها. لكن الحكم على أي تراث علمي بمعزل عن ظروف نشأته وتطوره ومساره التاريخي، قد يحجبنا عن إحدى أهم الحقائق التي لا بد من معرفتها.
فوفق الرؤية الكونية الإسلامية، ليس العلم الذي يُمنح للبشر أو يفتح عليهم سوى نتاج حركة اختيارية، يجب أن نفهمها وندرك قيمتها الواقعية بالنسبة لشيءٍ مهم وأساسي وهو ما يمكن أن نعبّر عنه بالمسار الإلهي الذي يجب أن يسلكه المجتمع البشري.. فإذا كانت هذه الحركة العامة في أي مجتمع منحرفة عن هذا الصراط، كانت الآثار ـ ومنها العلوم التي سيصلون إليها ـ في غير محلها؛ ولو كانت مليئة بالحقائق. فهناك شيء آخر في العلم لا يرتبط بمجرد الكشف عن الواقع، بل يتعداه إلى دوره وتأثيره على المجتمع فيما يرتبط بهدايته وكشف معالم الطريق الصحيح أمامه.
أجل، يمكن أن يكون العلم المليء بالحقائق سببًا للضلالة، وذلك حين يتعامل معه الإنسان من منطلقٍ واحد فقط، وهو آليته ودوره في كشف الحقيقة واعتبار ذلك أعلى الأشياء، في الوقت الذي يُفترض أن يكون أعلى الأشياء عبارة عن الانقياد لخطة الله وإرادته الواحدة.
حين تصبح حياتي عبارة عن التشبع المتواصل بالحقائق، فقد أغفل عن الكثير من الحقائق. فهذا الشعور بالامتلاء قد يغنيني إلى الدرجة التي لا يمكن معها أن أتصور وجود أمور أهم (الرجل الشبعان لا يهمه وجود طعام أكثر فائدة ولذة).
ولأجل ذلك، فإنّ حكمي على أي علم لا ينبغي أن ينحصر في إطار مدى وكمية إصابته للواقع (كشف الحقائق الوجودية وغيرها)، وبالتالي غناه المعرفي، وإنّما يجب أن يتعداه إلى قضية أولى وهي ما يرتبط بانسجامه مع الأطروحة الإلهية النبوية القرآنية في هداية المجتمع البشري.

وعلى ضوء ذلك، يحق لي أن أطرح هذا السؤال وأضع أمامي هذا الاحتمال، وهو فيما إذا كان هذا التراث الغني الجميل الجذاب صنيعة عوامل سلكت مسارًا منحرفًا عن تلك الأطروحة الكبرى بأولوياتها وأهدافها.
إنّ غياب هذه الأطروحة عن الأجواء العلمية الإسلامية حمل البعض على معارضة التراث العرفاني انطلاقًا من مرتكزات ضعيفة أو غير ناضجة. فبالنسبة للبعض كل علم نافع لا بد أن يصدر من الإمام المعصوم.. ولكن لماذا؟
أليس من الممكن أن يقوم هذا الإمام سرًّا بتعليم بعض الأصحاب تلك المعارف العميقة التي لم يظهر الكثير منها في الأحاديث التقليدية، فظهرت جراء ذلك وبتخطيط من الإمام نفسه في مكانٍ آخر غير متوقع بعيد عن بيئته التي توده أو تقدر مقامه؟
كل ذلك لأجل أن تكون بذرة الالتقاء بين مذاهب المسلمين في المستقبل البعيد، أليس هذا ما حاول بعض أهل العرفان إثباته؟ وما المانع من ذلك؟

وآخرون قد سعوا لربط كل علم إسلامي وغير إسلامي بأئمة الهدى مع تكلّفٍ بارد، فمنحوا هذه الظاهرة المعرفية (أي حركة العلوم المختلفة في المجتمع المسلم) قداسة مهمة، وصانوها عن أي عبث أو شيطنة؛ فصار كل علم حتى علم الكيمياء مراد الإمام الصادق (عليه السلام)؛ وصارت الفلسفة محبوبة عند الأئمة الأطهار لسكوتهم عن حركة الترجمة الواسعة التي جرت من الفلسفة اليونانية، أو لأنّهم عليهم السلام كانوا يحثون بشكل متواصل على استخدام العقل الذي هو ركن الفلسفة.
ولو أنّ الفكر الإسلامي استطاع أن يرسخ في ثقافته قضية المشروع النبوي لهداية الأمة وبناء المجتمع المثالي وإقامة الحكومة العالمية بقيادة المهدي المنتظر، وانطلق من هذا التأسيس لدراسة كل الظواهر التي تشكلت داخل الأمة الإسلامية لكان الأمر اليوم مختلفًا تمامًا.
إنّ الانطلاق من منظومة القيم الإسلامية ـ التي تتموضع فيها القيم وتتحدد طبيعة العلاقات والأولويات فيما بينها ـ هو السبيل الأيسر للنظر بعمق إلى ظاهرة العلوم الإسلامية التي كانت كغيرها من الظواهر عرضة للكثير من الأخطاء والتقصيرات والجهالات التي ابتُليت بها الأمة وهي غائبة عن قائدها الرباني.