مقالات

موقف الإسلام من العولمة في المجال الثقافي والسياسي (2)

 

الشيخ محمد مهدي شمس الدين ..

إشكال مواجهة العولمة

إن المهم عند المسلم ومن وجهة النظر الإسلامية فيما يتعلق بالعولمة هو تحصين الذات من التشويه والذوبان، تحصين الذات الحضارية والثقافية والإعتقادية والتشريعية من التشويه والذوبان في الآخر، من دون قطيعة مع الآخر، بل مع الاستجابة لجميع دواعي الاتصال.

ومن جهة أخرى تحصين المصالح من الانتهاك، المصالح الاقتصادية وقضايا السيادة والاستقلال. ومع ضمان هذين الأمرين فإن الإسلام يحض على التواصل الحي الفعال مع العالم.

ولكن الحركات والدول الإسلامية (وهو الموقف السائد في العالم الثالث عموماً) اتخذت في مواجهة العولمة أحد ثلاثة مواقف:

هناك من يدعو بحماس إلى الاندماج المطلق والاستجابة لكل مقتضيات العولمة، والتخلي عن كل الخصوصيات التي تميز الشخصية وتميز الدور، والتي تؤهل للدور المتميز.

وهناك فريق يعمل على الانسحاب والإنزواء والرفض، ويتشبث بالهوية الوطنية والثقافة الوطنية، ويتهم كل تجليات العولمة.

وهذا الانكماش والانطواء على الذات والانقطاع عن متغيرات العالم ليس حلاً للمشكلة، لأنه لا يجوز أن نختنق داخل أسوارنا، بل لم تعد لنا أسوار لأن وسائل الإتصال المتطورة، وإرادة الغزو والاستحواذ، لم تبق أسواراً لأية حضارة ولأي شعب ولأية ثقافة، فمآل حالة الانزواء والانطواء إلى الانتحار الذاتي، إلى خنق الذات وإلى محق الذات.

هناك تيار ثالث توفيقي يحمل نفس السمات التي ظهرت في التيار التوفيقي بين الإسلام والغرب في بدايات التواصل والإحتكاك بين العالم الإسلامي وأوروبا الغربية وحضارتها، هذا التيار يحاول أن يؤلف بين التيارين السابقين، يأخذ من العولمة ما يرى بأنه لا يتنافى مع الهوية والشخصية، ويرفض من العولمة مايرى ،نه يتنافى.

هذا التيار التوفيقي في الحقيقة تيار فاشل، ونعتبر أن التوفيقي بهذا المعنى، بأخذ صيغ ومؤسسات جاهزة ونبذ مؤسسات وصيغ جاهزة يشبه تأثيث منزل بموديلات متعددة ومن عصور مختلفة. إن مقولة (إننا نأخذ ما يناسب العلم ونحتفظ بقيمنا) مقولة غير واقعية لأن السؤال هو: هل يتمتع نظام القيم عندنا بالقدرة على مقاومة غزو تيار العولمة؟ هل هو قادر على أن يقاوم الثقافة الحسية البصرية المادية الشهوانية وبكل العناصر التي يشتمل عليها تيار الحداثة كما بيناه؟

الجواب:

إنه غير قادر. إننا في هذه الحالة نتخذ موقفاً لفظياً وشكلياً بينما يؤول بنا الأمر إلى الذوبان الكامل.

لابد من اعتماد مبدأ المقاومة ومبدأ تطوير الذات وليس المحافظة على ما نعتبره من الثوابت.

المطلوب هو تعميق وتفعيل حركة الاجتهاد، وتطوير كل مؤسسات الأمة في أنظمتها السياسية، وفي توجهاتها العلمية والثقافية، وفي توجهاتها الاقتصادية في مجالات الصناعة وفي مجالات الزراعة وفي مجالات المال.

لابد أن نتحرك في انتفاضة شاملة تعيد بناء الأمة وفقاً لنظرة جديدة تحيي أصالتها وحركتها وفاعليتها في مواجهة الأغيار، ومن دون هذا نحن لانرى أن هناك أفقاً يسمح بمقاومة التيار الوافد.

إن الموقف الصحيح الذي نراه ليس أخذ صيغ من العولمة، بل إدارة العملية الثقافية الاقتصادية الإعلامية وبالتواصل مع العالم الآخر، بنحو أننا نحن المسلمين والعرب نولد عولمتنا الخاصة، أو – بعبارة أخرى- نولد صيغتنا الخاصة من العولمة على قاعدة الثوابت الإسلامية التي تسم الأمة الإسلامية والأمة العربية.

في هذه الحالة حينما نأخذ من العولمة السائدة شيئاً لا يبقى بوجه من الوجوه محتفظاً بهويته الأمريكية أو الغربية على وجه العموم. بل يعاد تكوينه من داخله ومن مضمونه ليكتسب الهوية والصيغة التي تناسبنا وتتبع من ذاتيتنا الخاصة.

وفي المجال التوفيقي نلاحظ أنه يؤخذ من العولمة كل المواد الإستهلاكية في الأفكار والمواد المادية، يقال أننا نحتفظ بشخصيتنا الفكرية وصيغنا الوطنية في تركيبنا السياسي وفي بناء الدولة عندنا، وهذا وهم، لأن قوة الأشياء تؤثر على الأفكار والقيم.

إن العولمة بالنسبة إلى العالم الثالث أو معظم العالم تعني التلقي والاستتباع، تعني أن يكون دور الآخرين هو الخضوع، وأن موقعهم موقع تلقي التعليمات وتلقي صيغ الحياة والعيش، والاستتباع في المجال الاقتصادي والسياسي، بدل الحوار وبدل الاشتراك في صناعة صيغ الحياة وصيغ المجتمع.

إن (التعارف) الذي هو هدف (التنوع) بحسب المفهوم القرآني يعني تبادل الآراء وتبادل الخبرات والإنتاج المشترك لصيغ تولد من خلال الحوار والاتصال.ولكن مع سيطرة الإعلان والإعلام الإعلاني تحول الأمر إلى أن الإعلام لم يعد حواراً، لقد تحول إلى إعلان لا يدعو إلى الحوار، بل يدعو إلى الإصغاء، الإعلام والتعارف تعبيران عن ثقافتين مختلفتين.

التعارف يخلق أجواء الحوار والتواصل البشري الإنساني والتعاون وتحقيق مكاسب مشتركة، بينما الإعلام الإعلاني والإعلان الإعلامي يجمع كل المواد الاعلامية الملائمة لوجهة نظر سياسية أو اقتصادية أو فلسفية معينة، ويبثها على أنها حقائق وأفكار أساسية، ويطلب من الآخرين أن يقبلوها.

في ظل هذه الحالة يعيش العالم اليوم المرحلة التي يبدو فيها الصراع محسوماً لصالح الإعلان في صراعه مع الإعلام الصحيح بمعنى التعارف، ويبدو الإعلام أو الإنباء هو الوظيفة الاتصالية الكبرى التي يسخرها الإعلان بشكل كامل لغاياته وأهدافه السريعة التي تقوم على جني الأرباح.

 

ما هو هدف العولمة:

يقال إن هدف العولمة هو تكوين الإنسان الجديد!

من هو هذا الإنسان الجديد؟

هذا الإنسان الجديد كما نراه ونفهمه هو الإنسان المملوك والمصادر إعلامياً، الغارق في الشكلية، الخالي من أي مضمون خاص، بل إن الشكل أصبح هو المضمون.أنه الإنسان الذي تقوم حياته على الاستهلاك المحض، وعلى اللذة والمتع الحسية من دون أن يكون هناك أي مضمون آخر يغذي الحضارة بالقيم ويقوم على القيم.أنه الإنسان المادي الذي وصفه الله تعالى بقوله "أخلد إلى الأرض واتبع هواه" (سورة الأعراف – مكية – الآية 12) "جعل إلهه هواه" "الذين كفروا يتمتعون يأكلون كما تأكل الأنعام" ( سورة محمد,مدنية – 47,الآية :12).

إن العولمة فيما يظهر لنا من مسارها ومن تجلياتها في الأمن والاقتصاد والثقافة، هي عبارة عن عولمة 20 أو25% من سكان العالم على حساب 75% أو 80% من سكانه، حيث أن فريق العولمة يسيطر على مصائر باقي العالم، ويهيمن على اقتصاده وعلى أسواقه وعلى كيانه الوطنية وعلى هوياته الثقافية.

إن القوى المهيمنة على العولمة والتي تستغل العالم تحت شعارها تحتكر التكنولوجيا، وتحتكر التحكم بالنظام المالي على مستوى عالمي، وتتمتع بسهولة حصولها على الموارد الطبيعية على مستوى الكرة الأرضية بأسعار بخسة، وتتمتع بالقدرة على التحكم بوسائل الإعلام والإتصال، وتملك أسلحة الدمار الشامل.

وهكذا تبدو العولمة من هذا المنظور تحكماً في العالم وليس مشاركة له.

لقد لاحظنا دائماً ان محاولات ما يسمى (التحديث الثقافي) أو (التحديث الحضاري) الذي يمارسه الغرب تجاه الآخر، والآن تمارسه الإرادة الأمريكية الغريبة تجاه العالم، هو يهدف :إما إلى القضاء على مقومات المناعة والصمود والدور في شعب من الشعوب، وإلغاء منافس محتمل أو فعلي، أو- إذا لم يكن الأمر كذلك – فهو تدمير القوى التي تحول دون جعل هذا الشعب سوقاً للمنتجات التي تصدرها القوى الغربية. تعتبر العولمة أداة من أدوات الإقتصاد، وكما أن الاقتصاد أصبح أداة من أدوات الثقافة، تهدف العولمة إلى تدمير قوى المناعة التي تجعل من العرب أو من المسلمين أو من الصينيين أو من الهنود، أو غير هؤلاء، تجعل منهم قوة منافسة على مستوى المستقبل في المجال الحضاري، بكل ما يعنيه ذلك من علوم وثقافة وتكييف وتكيف للطبيعة ومع الطبيعة، أو إخضاع هذه الشعوب وإخضاع هذه الأمم لأجل أن تكون سوقاً لاستهلاك المواد المصنعة ومصدراً للمواد الخام، ومصدراً للأيدي العاملة الرخيصة، والقضاء في سبيل هذا الهدف على قوى الممانعة في هذه الشعوب، وهذا ما نلاحظه في صور سافرة أو بأساليب سافرة أو مقنعة في محاولة فرض الكيان الإسرائيلي على الأمة العربية والإسلامية. يبدو لنا أن العولمة والحضارة والتنظيم هي إعادة تعبير عن مقولة رسالة الرجل الأبيض، وهي إعادة تعبير عن مقولة تنازع البقاء وبقاء الأصلح التي تعني الأقوى.

إن هذه الصيغة إعادة إنتاج مشروع افتراس العالم بالأنياب والمخالب التي تكونت له نتيجة للتطور العلمي الجديد. إنها مشروع للسيطرة يدخل من باب الاقتصاد، ومن باب الثقافة ومن باب القيم، مشروع يركز القوة في يد واحدة لأجل أن يفتت المجموع ولأجل أن يسيطر على المجموع. قد لا يبالي هذا النظام بالخصوصيات الثقافية للآخرين إذا لم تتعارض مع مشروعه للسيطرة حيث أنها في هذه الحالة ستتحول إلى مجرد صور فلكلورية تبعث التسلية والبهجة حين تفقد قدرتها على أن تكون قوة ممانعة.

ولكن مجرد أن يكون هذا المضمون الثقافي مشروع ممانعة في مواجهة مشروع التسلط، فإنها تدمر بكل قساوة وبقوة القانون، من قبيل استخدام المؤتمرات التي تستهدف تهديم الأسرة كما في مؤتمر المرأة في بكين وفي القاهرة، أو التي تستهدف تدمير الاقتصاد كما في مؤتمرات الاقتصاد والتنمية، أو تستهدف القضاء على السيادة وإعطاء شرعية للتدخل في صميم خصوصيات كل شعب كما في استخدام شعار حقوق الإنسان والمؤسسات المسماة دولية، أو (قانون الحماية الدينية) التي تنتج إيجاد شرعية دولية للتدخل في شؤون الشعوب الأخرى.

إجراءات إغلاق هذه المنافذ تماماً لا تكفي لحماية الذات الثقافية والحضارية، بل ينبغي أن تعمل إلى جانب ذلك على تحصين الذات.ومن تحصين الذات يكون بتطوير القدرة الثقافية عند المسلم في أبعاد الثقافة كلها، تطوير المضمون الثقافي على مستوى الروحنة والعلاقة مع الله، وعلى مستوى الاندماج مع الطبيعة والمجتمع، وعقلنة العلاقة مع الطبيعة ومع المجتمع، وعلى مستوى تطوير وتفعيل حركة الاجتهاد في الأمة لاكتشاف آفاق الإسلام بالنسبة إلى متغيرات الوضع الإنساني في العالم المعاصر، ولخلق مناعة وكفاءة من كل ذلك تؤهل المسلم لأن يحتفظ بشخصيته في ضمن التنوعات التي تواجهه.

 

أسس الخصوصية الثقافية للأمة:

إن لكل مجتمع من المجتمعات انتماءً ثقافياً وخصوصيةً تميزه عن غيره من المجتمعات، قد تكون هذه الخصوصية جداراً يفصله عن الناس، وقد يكون معبراً يصله بالناس.

إن الخصوصيات الثقافية والحضارية لأمة من الأمم والتي تمثل شخصيتها تنشأ من أمرين رئيسيين:

الأول : المعتقد الذي تتولد منه قيم توجه السلوك، وتحكم النظرة إلى الكون والحياة والإنسان، وتحكم علاقة الإنسان بالمجتمع البشري وبالطبيعة وبالكون كله.

وتتولد من المعتقد طبيعة تكوين الأسرة، وعلائق الأسرة، وأخلاق الأسرة، وتربية الناشئة في الأسرة.كذلك النظر إلى العلم والى وظيفة العلم والى طريقة التعليم،كما تتولد منها أنماط من العلاقات بين الناس،بين الإنسان والإنسان، وبين القريب والبعيد، بين الأرحام، بين أبناء البلدة وأبناء المحلة وما إلى ذلك.

الثاني: اللغة التي يتكلمها المجتمع ويتخاطب بها ويتفاعل مع نفسه من خلالها بكل ما تختزنه من خبرة تاريخية متراكمة مع الطبيعة ومع الإنسان ومع الذات، وبما تختزنه من مستويات معرفية وحضارية مرت بها الأمة التي تتكلم تلك اللغة.

يمكن أن نقول إذن أن الخصوصية مقابل العالمية، مقابل ما به الاجتماع مع العالم، تتمظهر في أمرين كبيرين: تتمظهر في المعتقد الذي تتولد منه القيم والمعايير التي تحكم نظرة الإنسان إلى الكون والحياة والإنسان، وتتمظهر في اللغة بما تختزنه من خبرات ومن المضامين التي أشرنا اليها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة