مقالات

موقف الإسلام من العولمة في المجال الثقافي والسياسي (3)

 

الشيخ محمد مهدي شمس الدين ..

صيغ المواجهة مع التغريب والعولمة:

نلاحظ في العالم الإسلامي أن صيغ المواجهة أكثر ما تتجلى في الحركات الإسلامية التي يدعوها الغرب أصولية.

هذه الحركات التي نشأت لاعتبارات سياسية في الدرجة الأولى، ولاعتبارات ثقافية في الدرجة الثانية، أخذت تهتم أكثر فأكثر بتأصيل نفسها عن طريق تأصيل الثقافة الإسلامية، وهذه الحركات قد استفادت من الإمكانات المتاحة لوسائل الاتصال الحديثة على مستوى التلفزة والفيديو وأشرطة التسجيل والإنترنت وما إلى ذلك، لتعميم مفاهيمها ورؤيتها الثقافية السياسية والفقهية.

المواجهة الثانية تتم بشكل أقل حدة وأكثر مرونة على مستوى بعض الجماعات الثقافية غير الحركية الإسلامية، مجموعات المثقفين المسلمين غير الحركيين ومجموعات المثقفين غير الإسلاميين الذين ينتمون إلى تيارات قومية، ترى أنه يجب المحافظة على الذات، لامن خلال رؤية دينية لهذه الذات ومن خلال الكينونة الدينية للذات بل من خلال الرؤية الموضوعية القومية العلمانية للذات.

المواجهة الثالثة الأقدم والأشمل هي مواجهة القوى الإسلامية المركزية التي تتمركز في المؤسسات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي، وهي مقرات دراسة وتعليم ونشر الإسلام من خارج إطار الحركات السياسية كما يتمثل ذلك في قم والنجف والأزهر ومثيلات هذه المؤسسات على مستوى العالم الإسلامي، تمثل هذه المراكز القلاع الكبرى المؤسساتية والتي تنتمي إلى الأمة على مستوى شامل وغير جزئي، بل على مستوى شمولي تمثل الأمة في مواجهتها للتيارات الغريبة التي تتمثل الآن في تيار العولمة.

ولكن جميع هذه القوى تعاني من عدم الفاعلية بسبب العجز والتخلف.

 

ملاحظات في أسباب ومظاهر العجز والتخلف

إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية بجميع أطرها القومية والوطنية يتميز بأمور تظهر فيها نقاط الضعف أمام التحدي أو أمام الخطر الذي تمثله العولمة:

أولا- نلاحظ أن معظم الأنظمة السياسية التي تحكم شعوب الأمة الإسلامية تفتقر – بنسب متفاوتة – إلى الديمقراطية وإلى الرعاية الأمينة لحقوق الإنسان، ولا تلعب أي دور في توفير الحوافز عند شعوب هذه الأمة والإبداع، ومن هنا نلاحظ هجرة المبدعين الموهوبين (هجرة الأدمغة) إلى خارج العالم الإسلامي.

لقد أدى هذا إلى سيطرة الروح العشائرية والقبلية أو الفئوية على أنظمة الحكم، وأدى إلى انحسار روح المواطنة بالمعنى الصحيح، ومن ثم أدى إلى التخلف في الكينونة السياسية وفي العلاقة بين المواطن وبين نظام الحكم الذي يقوده ويسيره.

ثانياً- نلاحظ أن التخلف العلمي هو الذي يسم المجتمعات الإسلامية بالرغم من كثرة الجامعات، بالرغم من نمو عدد خريجي الجامعات، بالرغم من تقلص نسبة الأميين في هذه المجتمعات، إلا أننا في العالم الإسلامي حتى الآن لم نمتلك بصورة قوية وفعالة القدرة العلمية المبدعة،لم تتأسس مراكز الأبحاث الجادة لعدم توفير الأموال اللازمة لها،كما لم تتوفر لها الحريات اللازمة،لم تتوفر للمبدعين مجالات الانتاج والنمو والازدهار.

نلاحظ أن الأموال تصرف على حقول ذات أهمية ثانوية، بينما لا ينال الحقل العلمي حقل البحث العلمي والدراسة المتخصصة عالية المستوى ما يجب أن يناله من عناية.

ثالثاً- نلاحظ أن الوضع السياسي والتنظيمي للدولة الإسلامية في أنفسها وفيما بينها يعوق حركة الأفكار والأفراد، يعوق التواصل الحر ما بين العرب والمسلمين، لخضوع حركة التواصل لاعتبارات سياسية وأمنية في الدرجة الأولى. وفي نفس الوقت لا توجد شبكة اتصالات ميسرة بين هذه الدول، كما نلاحظ عدم وجود تعاون علمي فعال بين الدول والشعوب العربية والإسلامية، كما نلاحظ في نفس الوقت عدم وجود تكامل اقتصادي ومالي وصناعي وزراعي بحيث أن التجارة والتواصل البيني بين دول الأمة الإسلامية العربية أو غير العربية متخلف ومحدود جداً بالقياس إلى التواصل بين كل دولة من هذه الدول وبين الدول الغربية الكبرى، وبين التشكلات الاقتصادية الكبرى الموجودة في القارة الأمريكية أو في أوروبا أو في آسيا.

رابعاً- نلاحظ التخلف الكبير في العناية بنشر اللغات الإسلامية وفي مقدمتها اللغة العربية وتليها الفارسية والتركية، نشرها والتأليف فيها وخدمتها، وتكوين المجامع العلمية والثقافية التي تطور وتغني الثروة العليمة، ثروة التعابير العلمية والمصطلحات العلمية بهذه اللغات، وخاصة باللغة العربية.

ومما يتصل بما ذكرناه أن هذه الدول الإسلامية تتراوح بين مستهلكة لكل شيء، ومستوردة لكل شيء وبين دول إنتاجها الأعظم والأضخم هو إنتاج المواد الخام، هي تستهلك المواد المصنعة وتنتج المواد الخام، وهي تعتبر اقتصادها وسوقها اقتصاداً تابعاً وذلياً بالنسبة إلى الاقتصادات العالمية الفاعلة والمؤثرة.

هذا بالاضافة إلى الوصاية التي مارسها الاستعمار القديم، ثم مارستها بعد الحرب العالمية الثانية القوى الأوروبية الكبرى بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم مارستها وتمارسها الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد حرب الخليج الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية قد أدت إلى نمو ساحق للقدرة الإسرائيلية، وإلى انكماش في كل الأدوار الاقتصادية والثقافية والعليمة والسياسية التي تمارسها الدول الإسلامية تجاه نفسها وتجاه العالم.

هذه بعض مظاهر العجز والتخلف، ونضيف إلى ذلك أن روح الإبداع والاجتهاد في الإسلام متخلفة. ولا تصلح لعلاج ذلك بعض التيارات التي تدعو- تحت عنوان الاجتهاد وستار الاجتهاد- إلى الدخول فيما يدعى الحداثة، لأن هذا يستبطن تجاوزاً للإسلام وليس اجتهاداً في الإسلام.

نحن لا ندعو إلى هذا، بل ندعو إلى ترشيد حركة الاجتهاد داخل الإسلام بحيث يتوالد الإسلام من داخله، يبدع ويزدهر من داخله بأفكار جديدة ورؤى تشريعية جديدة، ومناهج تواصل جديدة مع الأمة ومع الطبيعة ومع العالم الآخر، مع المجتمعات الأخرى.

نلاحظ أن هذه الروح الإبداعية الإسلامية لم تعبر عن نفسها بصورة مناسبة حتى بعد إعادة الاعتبار إلى حركة الاجتهاد في جميع المذاهب الإسلامية وفي جميع التيارات الفقهية الإسلامية.

وهذا ما دفع العولمة ومؤسساتها إلى متابعة هجومها بصيغ متنوعة وبآليات ووسائل تناسب كل حقل من حقول المواجهة.

 

الشرق أوسطية وحقوق المرأة والحماية الدينية والتربية على الإسلام:

نلاحظ أن من الجهود البارزة لفرض واقع العولمة بصورتها السياسية والاقتصادية ومن ثم الثقافة محاولة ترسيخ مفهوم (الشرق أوسطية) وتحويله من مفهوم جغرافي إلى مفهوم حضاري وثقافي وسياسي واقتصادي وإنساني، يهدف إلى دمج إسرائيل في نسيج المنطقة العربية- الإسلامية الإنساني والاقتصادي والثقافي، وتذويب العرب في نظام المصالح الأميركي الصهيوني واستبدال هوية المنطقة العربية الإسلامية بهوية جغرافية تضم إسرائيل.

ونشير إلى أنه من بين الوسائل التي تستخدمها القوى العظمى لفرض فكرة العولمة، المؤتمرات التي تركز على المرأة كما نلاحظ ذلك في مؤتمر القاهرة حول السكان والتنمية وفي مؤتمر بكين حول المرأة وفي مشروع قانون الحماية الدينية الأمريكي.

إن مؤتمرات المرأة تحاول أن تستهدف فرض الرؤية العربية العلمانية بصيغتها الأمريكية للمراة وللجنس وللعلاقات الجنسية وللأسرة، فرض هذه النطرة على العالم كله من خلال تطوير وضع قانوني في هذا الشأن يفرض على دول وشعوب العالم.

ومن التمظهرات المربية التي نعتقد أنها وسائل إضعاف الذات العربية الإسلامية لاختراقها ولفرض ثقافة الآخر، ووجود الآخر هو أن القوى الدولية المهيمنة استخدمت الأونيسكو للدعوة إلى ما يسمى التربية على السلام وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر، ويراد من ذلك تشجيع عناصر التفكك داخل المجتمعات العربية والإسلامية داخل أفريقيا مثلاً، وداخل أمريكا اللاتينية، كما يراد فتح المجال لإسرائيل لتكون جزءاً أو عنصراً معترفاً به ومقبولاً في المنطقة، وذلك من خلال اعتبار أن الآخر الذي يجب قبوله هو إسرائيل، أما الآخر المسلم في أماكن أخرى والآخر العربي وحقوقه فهذا أمر يغض النظر عنه.

كما نلاحظ أن الدعوات التي ظهرت في العالم الغربي والتي تعتبر أن الإسلام هو التحدي الجديد للعالم الغربي وللثقافة وللحداثة وللحضارة، والتي تعتبر أن الإسلام هو العدو، كلها تصب في هدف تدمير الثقافة الإسلامية والكيانة الإسلامية لمصلحة ثقافة العولمة ومصالح القوى الكبرى في العالم التي تريد الهيمنة.

إن التعبير الذي عبر عنه (هانتجون) في مقولة صدام الحضارات و (فوكوياما) في مقولة نهاية التاريخ هما التعبيران المميزان في هذا المجال.

ويندرج في هذا السياق أيضاً الإصرار غير المبرر إطلاقاً على تشجيع ظاهرة سلمان رشدي وآياته الشيطانية وهي ظاهرة تجاوزت هذا الكتاب وروايته لتكون رمزاً لتشجيع كل ما يؤدي إلى استثارة المسلمين أو انتقاصهم بهدف اتهامهم إذا سكتوا بهدف استلابهم، وإذا تحركوا بهدف انتقاصهم واتهامهم.

نلاحظ أن هذا الاتجاه استدعى رد فعل بارز ومبارك على المستوى العربي والإسلامي ودعا إلى تطوير صيغ التكامل الاقتصادي، وإلى إعادة الاعتبار للمواثيق المشتركة، ونعتبر أن التعبير الذي صدر عن قمة الدول الإسلامية في طهران قد كشف عن المكنون الثقافي العقائدي الرشيد لمضمون هذه الأمة، لوعي الأمة لمحتواها واتخاذ صيغة المقاومة، ليس المقاومة السلبية، بل المقاومة الإيجابية التي تهدف إلى إعادة توليد الإسلام لذاته بالنحو الذي أشرنا إليه فيما سبق.

 

المقاومة الأوربية للعولمة:

إن هاجس الخوف من المحق الثقافي والاستحواذ ليس مقصوراً على العالم الثالث أو في خصوص العالم العربي والإسلامي، بل إن هذا الهاجس بدأ يظهر بقوة في العالم الأوروبي، حيث نجد أن الدول الأوروبية (كل دولة من جهة) وأن الاتحاد الاوروبي ككل من جهة أخرى، يحاول تنظيم وتحصين ذاته ضد هذا الغزو، وضد مشروع الهيمنة تحت ستار العولمة، ونجد ظواهر ذلك في أوربا تتجلى في مجال اللغة والانتاج الفني في الأغنية وفي السينما وفي عادات الطعام وفي العادات الاجتماعية إضافة إلى أمور اخرى.

ومن البارز في هذا الحقل الاجراءات الاحترازية في فرنسا حيث وصل الأمر إلى حظر استخدام الألفاظ الإنجليزية في الإعلانات أو في وسائل الاعلام.

ونلاحظ أحد التعابير المهمة في سعي أوربا لتحصين نفسها تجاه العولمة الأمريكية، أن الكيان الأوربي يعتبر أن الأمن المعلوماتي أحد الأهداف الرئيسية لتكتله في مجال الاقتصاد والسياسة والعلوم في مقابل الهيمنة الأمريكية.

إننا نسجل هنا أن الخوف من تيار العولمة لا يقتصر على البلدان العربية والإسلامية وغيرها في العالم الثالث، بل إن التعبير عن هذا الخوف يتصاعد في عقر دار العولمة، حيث أن الطبيعة الافتراسية المادية لتيار العولمة يثير مخاوف في أوساط المفكرين المستقبليين في الولايات المتحدة نفسها الذين يحذرون من أن هذا التيار يمكن أن يفترس القوة التي أطلقته، لأنه يدمر القيم تدميراً  كاملاً ويؤدي إلى هزيمة الذات أمام القوة التي يطلقها هذا التيار، وكما تصاعد هذا الخوف في داخل أوروبا نفسها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة