علمٌ وفكر

الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة (2)

 

السيد محمد باقر الصدر ..

كيف تعالج المشكلة ؟

والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر وإقامة دعائم المجتمع المستقرّ :

أحدهما : أن يبدّل الإنسان غير الإنسان ، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحّي بمصالحه الخاصّة ، ومكاسب حياته المادّية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه ، مع إيمانه بأنّه لا قيم إلاّ قيم تلك المصالح المادّية ، ولا مكاسب إلاّ مكاسب هذه الحياة المحدودة . وهذا إنّما يتمّ إذا انتزع من صميم طبيعته حبّ الذات ، وأُبدل بحبّ الجماعة ، فيولد الإنسان وهو لا يحبّ ذاته إلاّ باعتبار كونه جزءاً من المجتمع ، ولا يلتذّ لسعادته ومصالحه إلاّ بما أنّها تمثّل جانباً من السعادة العامّة ومصلحة المجموع ؛ فإنّ غريزة حبّ الجماعة تكون ضامنة ـ حينئذٍ ـ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلّباتها بطريقة ميكانيكية وأُسلوب آلي .

والسبيل الآخر الذي يمكن للعالّم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الإنسانية ومستقبلها هو : أن يطوّر المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة ، وبتطويره تتطوّر طبيعياً أهدافها ومقاييسها ، وتتحقّق المعجزة ـ حينئذٍ ـ من أيسر طريق .

والسبيل الأوّل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها ، ويَعِدون العالم بأنّهم سوف ينشئونها إنشاءً جديداً ، يجعلها تتحرّك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها . ولأجل أن يتمّ هذا العمل الجبّار يجب أن نوكل قيادة العالم إليهم ، كما يُوكل أمر المريض إلى الجرّاح ، ويُفوَّض إليه تطبيبه وقطع الأجزاء الفاسدة منه، وتعديل المعوج منها . ولا يعلم أحدٌ كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جرّاح . وإنّ استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي ، الذي خدعها بالحرّيات المزعومة ، وسلب منها أخيراً كرامتها ، وامتصّ دماءها ؛ ليقدّمها شراباً سائغاً للفئة المدلّلة التي يمثّلها الحاكمون .

والفكرة في هذا الرأي القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وإنشائها من جديد ترتكز على مفهوم الماركسية عن حبّ الذات ؛ فإنّ الماركسية تعتقد أنّ حبّ الذات ليس ميلاً طبيعياً وظاهرة غريزية في كيان الإنسان، وإنّما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية ؛ فإنّ الحالة الاجتماعية للملكية الخاصّة هي التي تكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلق في الفرد حبّه لمصالحه الخاصّة ومنافعه الفردية . فإذا حدثت ثورة في الأُسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي ، وحلّت الملكية الجماعية والاشتراكية محلّ الملكية الخاصّة ، فسوف تنعكس الثورة في كلّ أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان ، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية ، ويتحوّل حبّه لمصالحه ومنافعه الخاصّة إلى حبّ لمنافع الجماعة ومصالحها ، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية ، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيّف بموجبها .

والواقع : أنّ هذا المفهوم الماركسي لحبّ الذات ، يقدِّر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حبّ الذات) ، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب . وإلاّ فكيف نستطيع أن نؤمن بأنّ الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصّة والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها ؟! فإنّ الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي ، لَمَا أوجد هذه التناقضات ، ولا فكّر في الملكية الخاصّة والاستئثار الفردي . ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ما دام لا يحسّ بالدافع الذاتي في أعماق نفسه ؟!

فالحقيقة : أنّ المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلاّ نتيجة للدافع الذاتي لغريزة حبّ الذات . فهذا الدافع أعمق منها في كيان الإنسان ، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بإزالة تلك الآثار ؛ فإنّ عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار بأُخرى قد تختلف في الشكل والصورة ، لكنّها تتّفق معها في الجوهر والحقيقة .

أضف إلى ذلك : أنّنا لو فسّرنا الدافع الذاتي (غريزة حبّ الذات) تفسيراً موضوعياً ـ بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي ، كظاهرة الملكية الخاصّة ـ كما صنعت الماركسية ، فلا يعني هذا أنّ الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي بإزالة الملكية الخاصّة ؛ لأنّها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي ، ولكنّها ليست هي الوحيدة من نوعها ، فهناك ـ مثلاً ـ ظاهرة الإدارة الخاصّة التي يحتفظ بها حتّى النظام الاشتراكي . فإنّ النظام الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج ، غير أنّه لا يلغي إدارتها الخاصّة من قِبل هيئات الجهاز الحاكم الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا ، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها ؛ إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافّة . فالنظام الاشتراكي يحتفظ ـ إذن ـ بظواهر فردية بارزة ، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفرديّة أن تحافظ على الدافع الذاتي ، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار ، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصّة .

وهكذا نعرف قيمة السبيل الأوّل لحلّ المشكلة (السبيل الشيوعي) الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصّة ومحوها من سجلّ القانون كفيلاً وحده بحلّ المشكلة وتطوير الإنسان .

وأمّا السبيل الثاني ـ الذي مرّ بنا ـ فهو الذي سلكه الإسلام ؛ إيماناً منه بأنّ الحلّ الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادّي للإنسان عن الحياة . فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصّة ليبطله ، وإنّما غزا المفهوم المادّي عن الحياة ، ووضع للحياة مفهوماً جديداً ، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد ، بل وضع لكلّ منهما حقوقه ، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادّية معاً . فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة ، فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية ؛ فإنّ نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجّت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي : النظرة المادّية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الإنسان في الدنيا هي كلّ ما في الحسّاب من شيء ، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكلّ فعّالية ونشاط .

إنّ الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقّق في نظر الإسلام ، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته ، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصّة في ذاتها ؛ لأنّ الإسلام يختلف في طريقته المنطقية واقتصاده السياسي وفلسفته الاجتماعية عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية ـ  ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي ، خالٍ من تلك التناقضات المزعومة ، بل إنّ مردّ الفشل والوضع الفاجع الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام إلى مفاهيمها المادّية الخالصة ، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ، ويستمدّ خطوطه العامّة من روحها وتوجيهها.

فلابدّ إذن من معين آخر ـ غير المفاهيم المادّية عن الكون ـ يستقي منه النظام الاجتماعي ، ولابدّ من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ، ويتبنّى القضية الإنسانية الكبرى ، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم ، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية . وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالَم ، واكتساحه لكلّ وعي سياسي آخر ، وغزوه لكلّ مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية ... يمكن أن يدخل العالَم في حياة جديدة مشرقة بالنور عامرة بالسعادة .

إنّ هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة السلام الحقيقي في العالم ، وإنّ هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدّت نظامها الاجتماعي ـ المختلف عن كلّ ما عرضناه من أنظمة ـ من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون .

وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان إلى حياته ، فجعله يؤمن بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال ، وأنّها إعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء ، ونصب له مقياساً خُلُقياً جديداً في كلّ خطواته وأدواره ، وهو : رضا الله تعالى . فليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز ، وكلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصية فهو محرّم وغير مستساغ ، بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو : الرضا الإلهي . والمقياس الخُلُقي الذي توزن به جميع الأعمال إنّما هو : مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدّس . والإنسان المستقيم هو : الإنسان الذي يحقّق هذا الهدف . والشخصية الإسلامية الكاملة هي : الشخصية التي سارت في شتّى أشواطها على هدي هذا الهدف ، وضوء هذا المقياس ، وضمن إطاره العامّ .

وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخُلُقية وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانية وإنشاءها إنشاءً جديداً كما كانت تعني الفكرة الشيوعية ، فحبّ الذات ـ أي : حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة ـ طبيعي في الإنسان ، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبي أوضح من استقراء الإنسانيّة في تأريخها الطويل الذي يبرهن على ذاتية حبّ الذات ، بل لو لم يكن حبّ الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأوّل ـ قبل كلّ تكوينة اجتماعية ـ إلى تحقيق حاجاته ، ودفع الأخطار عن ذاته ، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده ، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين ؛ تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار ، ولَمَا كان حبّ الذات يحتلّ هذا الموضع من طبيعة الإنسان . فأيّ علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب أن يقوم على أساس الإيمان بهذه الحقيقة ، وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلّب عليها ، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة