علمٌ وفكر

توضیح الرؤیة الدینیة(1)

 

السيد محمد باقر السيستاني ..

1-وجود الخالق للكون وتوصیفه

2-تدبیره للكون وغایاته

إن للرؤیة الدینیة جوانب ثلاثة: معرفیة، وتكوینیة، وتشریعیة.

وقد تقدم الكلام عن الجانب المعرفي.

الجانب التكویني للرؤیة الدینیة:

وهو الجانب المتضمن لبیان الحقائق الكبرى في الكون.

ویدور حول موضوعین خطیرین: الخالق، والإنسان.

الموضوع الأول: الخالق.

إنّ الإنسان - وفق الرؤیة الدینیة - یجد في عالم المادة وكائناتها أثراً من كائن غیبي، ویجد دلائل على صفات كمالیة له؛ من قدرة وعلم وإبداع، وقد بیَّن الدین في مقام تأكید هذه الرؤیة وتفصیلها وإسعاف الإنسان في حدودها أموراً تتضمن إثبات صفات ثلاثة لخالق الكون والحیاة:

الأولى: كونه إلها صانعاً للكون والحیاة.

الثانیة: كونه مدبراً للكون والكائنات كلها.

الثالثة: كونه معنياً بالإنسان عنایة خاصة.

الصفة الأولى: كون الله خالقاً للكون والحیاة: وتنطوي على أمور عدّة وفق الرؤیة الدینیة:

أولاً: وجود خالق للإنسان ولسائر الكائنات وواضع لسننها وقوانينها یمكن اكتشافه من خلالها، ومن ظاهرة الحیاة فيها، ومن نظمها وتخطيطها.

وتشیر إلى ذلك آیات كثیرة في القرآن الكریم منها قوله تعالى: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَيْءٍ أَمْ هم الْخَالِقُونَ ]

 ومنها: الآیات التي يتصدرها قوله: [وَ مِنْ آَیَاتِهِ ] ،أو قوله: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَیَة ]، أو التي بلسان [اللهُّ الَّذِي] فعل كذا وكذا.

ثانياً: إنّ الله تعالى یتّصف بالحیاة الدائمة والقدرة الشاملة والعلم المحیط - كما تنبِّه عظمة الكون والكائنات - بما یصحّ معه القول: أنّ عظمة الله تعالى وقدرته وعلمه أكبر مما یقدر عليه الإنسان أو یمكن أن یجول في خياله كما ورد في الآیات القرآنیة.

ولا یزال یتبین صدق هذا المعنى وعمقه یوماً بعد یوم، بما ینكشف شیئاً فشیئاً من أبعاد قدرة الله تعالى. كالعمق الزمني السحیق للعالم، وامتداد الكون في المجرات، والكواكب التي تحتويها كلّ مجرة، والقوانین المعقّدة الحاكمة في الحیاة والكامنة خلف ظواهرها وخصوصاً الفیزیائیة منها ما يكشف عن تناسق مذهل للكون، لم یزل موضع إعجاب العلماء النابغین. على أنّ الاكتشافات لم تنتهِ ولا تكاد تنتهي في هذا السیاق، وبذلك فمن الطبیعيّ أنّ لا یستطیع الإنسان إدراك أبعاد ما تعالى مما لم يشهده بعد؛ مما كان ینبغي له التسلیم هو مقدور لله بإخبار الغیب فيه.

 ومن الخطأ - بحسب المنطق الفطري السلیم – في هذا السیاق ما تنحاه بعض الاتجاهات من اعتبار غرابة جملة من

المعارف والأحكام الدینیة وعدم مألوفيتها مؤشراً مسبقاً على بطلانها؛ كاستبعاد إعادة الله الإنسان إلى الحیاة بعد مماته في نشأة أخرى، فإن من یستبعد ذلك أشبه بمن رأى شیئاً من المصنوعات الرائعة، مما وقع عنده موقع الإعجاب والإكبار. فأنكر صنع شيء بدیع آخر؛ لاعتقاده بأن هذا آخر صنیع في مجاله.

ثالثاً: إنّ الله تعالى حكیم في فعله.

 ومعنى حكمته:

1-أنّ أعماله متناسقة ومتناسبة، ولا یمكن له أن یفعل أفعالا غیر متناسقة؛ بأن یغفر مثلاً  لبعض الناس خطایاھم دون بعض آخر، أو یعطي بعضهم ولا یعطي بعضاً آخر مع استوائهم وتماثلهم ومن دون مرجح.

وممّا يشهد على هذا: ما نجده بأنفسنا وأكد عليه علماء الفیزیاء - من اتساق جمیع القوانین الحاكمة في الكون المادي اتساقاً مذهلا.

2-أنه تعالى لا يلهو ولا یعبث، بل له غایات حكیمة ومتقنة لائقة به ومنظورة له، قال سبحانه: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بينهما لَاعِبِینَ ] .

رابعاً: إنّ من أغراض الخالق من صنع هذا العالم المادي وسنّ قوانینه:

1-إظهار قدرته وبیان عظمته للذوات العاقلة من مخلوقاته التي تدرك بعقولها، حیث تأملت أبعاد هذا العالم وآفاقه،  وقد یمثّل لذلك برسم الفنان لوحة بدیعة أو نحته نحتاً رائعاً بغرض إثبات قدرته الفنیة.

2-نشأة أخرى هي الغایة التي تسیر إليها مجموعة الكون المادي وكائناته، تكون الحیاة عبثاً لولاها.

حیث یقلب الله تعالى الكون بما فيه من كواكب ومجرات إلى نظام آخر كما قال تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بينهما لَاعِبِینَ مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهم لَا یَعْلَمُونَ ].

 وقد ذكر الله سبحانه أنّ المؤمنین یستشفون هذه الغایة بالتأمل في خلق السموات والأرض في قوله: [َویَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ].

 وقد جاء وصف هذا التحول الكبیر في الكون في بعض

الآیات كقوله تعالى: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ] ، وقوله: [إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ] وهذه الغایة النهائية للكون تشیر إلى محوریة الإنسان في هذه الحیاة؛ لأنه المحور لما يحصل في الحیاة الآخرة..

خامساً: إنّ هذا الخالق وجود غیر مادي؛ فإن بديهة العقل تدلّ على عدم ألوهية شيء مما يشهده الإنسان بحواسه؛ من بشر وحیوانات وأشجار وجمادات؛ لأنها ولیدة قوانین الوجود والحیاة، على غرار أمثالها الموجودة في الطبیعة، ولا تصلح لأن تكون مهيمنة على الكون بقدمه وسعته ودقته، كما نبهت الآیات الشریفة، كقوله تعالى:[أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُّ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ] ویتفرع على ذلك: إن طبیعة وجود الله تعالى وسنخ وجوده؛ سنخ وجود راقٍ، یجلّ عن شؤون المادة ومحدوديتها، فلا استكمال له ولا نقصان فيه، ولا تجزّؤ في ذاته، على نحو ما نشهده في عالم

المادة، كما تمّ التأكید على ذلك في النصوص الدینیة سواء في الآیات القرآنیة أم في خطب نهج البلاغة.

سادساً: إنّ الخالق للحیاة واحد، إذ لا أثر لتعدد خالق الكون والكائنات، فالكل جارٍ على نظام واحد متسق بقوانین متحدة، ولو كان هناك آلهة متعددة؛ لكان ذلك مظنّة التصادم بین تقنينها للكون كما قال تعالى: [وْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا]، ولبلّغ الباقون عن وجودھم كما بلّغ لله سبحانه، كما نبه على ذلك أمیر المؤمنین في وصيته لابنه الحسن (ع): (لو كان لربك شریك لأتتك رسله).

 ویمكن تنظیر هذا السیر بما ثبت في العلوم الحدیثة؛ من أنّ لكلّ خصوصیة من خصوصیات الكون والكائنات غایة تسیر نحوها، وتنتهي إليها حسب سنن الحیاة، وهي منظورة بخلقها، ومن ثَمَّ یُذكر في علم الأحیاء كیف جُهز كل حیوان بجملة من الأدوات والأسالیب والغرائز التي تحفظ هذا الحیوان، فعندما یحلل علماء الأحیاء صفات الكائن كمنقاره وجناحه، أو سائر صفاته، یبینون كیف تتلاءم هذه الخصائص مع صلاح هذا الكائن في حفظه وتكاثره ووقايته عن الأخطار، وربما أشیر إلى مثل ذلك بالآیة الشریفة: [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ].

سابعاً: إنّ الله تعالى أجلّ من أن تُدرك تفاصیل ذاته، ومن أن یوصف كما توصف الكائنات وخصوصياتها، وهذا أمر واضح بعد أن لم یكن وجوداً مادیاً. وعليه: فإن الإنسان لا یستطیع إدراك كیفیة ذاته سبحانه وخصائصها؛ لعدم امتلاكه أدوات ذلك، ومن ثَمَّ یكون التفكیر والتنظیر في ذلك لغواً  وعليه: فإنّ من الخطأ الكبیر الاستدلال على كیفیة صفاته الكمالیة مثل علمه بصفات خلقه، فهو كما ورد في الآیة الكریمة لیس كمثله شيء ، ولیس لذاته شبه بالموجودات في كیفیة صفاتها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة