علمٌ وفكر

المصدر الأساسي للمعرفة (2)


السيد محمد باقر الصدر ..
3 ـ النظرية الحسّية :
وهي النظرية القائلة : إنّ الإحساس هو المموِّن الوحيد للذهن البشري بالتصوّرات والمعاني ، والقوّة الذهنية هي القوّة العاكسة للإحساسات المختلفة في الذهن . فنحن حين نحسّ بالشيء نستطيع أن نتصوّره ـ أي : أن نأخذ صورة عنه في ذهننا . وأمّا المعاني التي يمتدّ إليها الحسّ ، فلا يمكن للنفس ابتداعها وابتكارها ذاتياً وبصورة مستقلّة .
وليس للذهن بناء على هذه النظرية إلاّ التصرّف في صور المعاني المحسوسة ، وذلك بالتركيب والتجزئة : بأن يركّب بين تلك الصور أو يجزّئ الواحدة منها ، فيتصوّر جبلاً من ذهب أو يجزّئ الشجرة التي أدركها إلى قطع وأجزاء . أو بالتجريد والتعميم : بأن يفرز خصائص الصورة ويجرّدها عن صفاتها الخاصّة ؛ ليصوغ منها معنىً كلّياً ، كما إذا تصوّر زيداً وأسقط من الحسّاب كلّ ما يمتاز به عن عمرو ؛ فإنّ الذهن بعملية الطرح هذه يستبقي معنىً مجرّداً يصدق على زيد وعمرو معاً .
ولعلّ المبشّر الأوّل بهذه النظرية الحسّية هو (جون لوك) الفيلسوف الإنكليزي الكبير الذي بزغ في عصر فلسفي زاخر بمفاهيم (ديكارت) عن الأفكار الفطرية ، فبدأ في تفنيد تلك المفاهيم ، ووضع لأجل ذلك دراسة مفصّلة للمعرفة الإنسانية في كتابه (مقالة في التفكير الإنساني) ، وحاول في هذا الكتاب إرجاع جميع التصوّرات والأفكار إلى الحسّ . وقد شاعت هذه النظرية بعد ذلك بين فلاسفة أوروبا ، وقضت إلى حدّ ما على نظرية الأفكار الفطرية ، وانساق معها جملة من الفلاسفة إلى أبعد حدودها حتّى انتهت إلى فلسفات خطرة جدّاً ، كفلسفة (باركلي) و(دافيد هيوم).
والماركسية تبنّت هذه النظرية في تعليل الإدراك البشري ، تمشّياً مع رأيها في الشعور البشري ، وأنّه انعكاس للواقع الموضوعي ؛ فكلّ إدراك يرجع إلى انعكاس لواقع معيّن ، ويحصل هذا الانعكاس عن طريق الإحساس . وما يخرج عن حدود الانعكاسات الحسّية لا يمكن أن يتعلّق به الإدراك أو الفكر ، فنحن لا نتصوّر إلاّ إحساساتنا التي تشير إلى الحقائق الموضوعية القائمة في العالم الخارجي .
قال جورج بوليتزير : (ولكن ما هي نقطة البدء في الشعور أو الفكر ، إنّها الإحساس . ثمّ إنّ مصدر الإحساسات التي يعالجها الإنسان بدافع من احتياجاته الطبيعية).
(الرأي الماركسي يعني ـ إذن ـ أنّ محتوى شعورنا ليس له من مصدر سوى الجزئيات الموضوعية التي تقدِّمها لنا الظروف الخارجية التي نعيش فيها ، وتعطى لنا في الإحساسات . وهذا كلّ ما في الأمر) .
وقال ماو تسي تونغ موضّحاً الرأي الماركسي في المسألة : (إنّ مصدر كلّ معرفة يكمن في إحساسات أعضاء الحسّ الجسمية في الإنسان للعالم الموضوعي الذي يحيطه) .
(وإذن فالخطوة الأُولى في عملية اكتساب المعرفة هي : الاتّصال الأوّلي بالمحيط الخارجي ، مرحلة الأحاسيس . الخطوة الثانية هي : جمع المعلومات التي نحصل عليها من الإدراكات الحسّية ، وتنسيقها وترتيبها) .
وتركِّز النظرية الحسّية على التجربة ، فقد دلّلت التجارب العلمية على أنّ الحسّ هو الإحساس الذي تنبثق عنه التصوّرات البشرية ، فمن حُرم لوناً من ألوان الحسّ فهو لا يستطيع أن يتصوّر المعاني ذات العلاقة بذلك الحسّ الخاصّ ؛ ولذلك قيل منذ القديم : من فقد حسّاً فقد علماً .
وهذه التجارب ـ إذا صحّت ـ إنّما تبرهن علمياً على أنّ الحسّ هو الينبوع الأساسي للتصوّر ، فلولا الحسّ لما وجد تصوّر في الذهن البشري ، ولكنّها لا تسلب عن الذهن قدرة توليد معانٍ جديدة ـ لم تدرَك بالحسّ ـ من المعاني المحسوسة ، فليس من الضروري أن يكون قد سبق تصوّراتنا البسيطة جميعاً الإحساس بمعانيها كما تزعم النظرية الحسّية .
فالحسّ على ضوء التجارب الآنفة الذكر هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها التصوّر البشري ، ولا يعني ذلك : تجريد الذهن عن الفعّالية وابتكار تصوّرات جديدة على ضوء التصوّرات المستوردة من الحسّ.
ويمكننا أن نوضِّح فشل النظرية الحسّية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصوّر البشري إلى الحسّ ، على ضوء دراسة عدّة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية : العلّة والمعلول ، الجوهر والعرض ، لإمكان والوجوب ، الوحدة والكثرة ، الوجود والعدم ، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصوّرات .
فنحن جميعاً نعلم أنّ الحسّ إنّما يقع على ذات العلّة وذات المعلول ، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سُحِبت من تحته المنضدة التي وضع عليها ، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار ، وكذلك ندرك تمدّد الفلزّات في جوّ حار . ففي هذه الأمثلة نحسّ بظاهرتين متعاقبتين ، ولا نحسّ بصلة خاصّة بينهما ، هذه الصلة التي نسمّيها بالعلّية ، ونعني بها : تأثير إحدى الظاهرتين في الأُخرى ، وحاجة الظاهرة الأخرى إليها لأجل أن توجد .
والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحسّ لنفس العلّية واعتبارها مبدأ حسّياً تقوم على تجنّب العمق والدقّة في معرفة ميدان الحسّ وما يتّسع له من معاني وحدود . فمهما نادى الحسّيون بأنّ التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحسّ هي التي توضّح مبدأ العلّية ، وتجعلنا نحسّ بصدور ظواهر مادّية معيّنة من ظواهر أخرى مماثلة ، أقول : مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم أن التجربة العلمية لا يمكن أن تكشف بالحسّ إلاّ الظواهر المتعاقبة ، فنستطيع بوضع الماء على النار أن ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة ، وأخيراً نحسّ بغليان الماء . وأمّا أنّ هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معيّنة ، فهذا ما لا يوضّحه الجانب الحسّي من التجربة ، وإذا كانت تجاربنا الحسّية قاصرة عن كشف مفهوم العلّية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري ، وصرنا نتصوّره ونفكّر فيه؟
وقد كان (دافيد هيوم) ـ أحدّ علماء رجال المبدأ الحسّي ـ أدقّ من غيره في تطبيق النظرية الحسّية ، فقد عرف أنّ العلّية بمعناها الدقيق لا يمكن أن تُدرك بالحسّ ، فأنكر مبدأ العلّية ، وأرجعها إلى عدّة تداعي المعاني ، قائلاً : إنّي أرى كرة البلياردو تتحرّك فتصادف كرة أخرى فتتحرك هذه ، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية ، والحسّ الباطني يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة ، ولكني لا أدرك به إدراكنا مباشراً علاقة ضرورية بين الحركة والأمر .
ولكنّ الواقع : أنّ إنكار مبدأ العلّية لا يخفّف من المشكلة التي تواجه لنظرية الحسّية شيئاً ؛ فإنّ إنكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني أننا نصدق بالعلّية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي ، ولم نستطع أن نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض ، ولكن مبدأ العلّية كفكرة تصديقية شيء ، ومبدأ العلّية كفكرة تصوّرية شيء آخر ، فهب أنّا لم نصدّق بعلّية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض ، ولم نكوّن عن مبدأ العلّية فكرة تصديقية ، فهل معنى ذلك : أنّنا لا نتصوّر مبدأ العلّية أيضاً ؟ وإذا كنّا لا نتصوّره فما الذي نفاه (دافيد هيوم) ؟ وهل ينفي الإنسان شيئاً لا يتصوّره؟!
فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي : أنّنا نتصوّر مفهوم العلّية سواء أصدّقنا بها أم لا ، وليس تصوّر العلّية تصوّراً مركّباً من تصوّر الشيئين المتعاقبين ، فنحن حين نتصوّر علّيه درجة معيّنة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلّية تركيباً اصطناعياً بين فكرتي الحرارة والغليان ، بل فكرة ثالثة تقوم بينهما ، فمن أين جاءت هذه الفكرة التي لم تُدرك بالحسّ إذا لم يكن للذهن خلاّقية لمعانٍ غير محسوسة ؟ !
ونواجه نفس المشكلة في المفاهيم الأخرى التي عرضناها آنفاً ، فهي جميعاً ليست من المعاني المحسوسة ، فيجب طرح التفسير الحسّي الخالص للتصوّر البشري والأخذ بنظرية الانتزاع .


4 ـ نظرية الانتزاع :
وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامّة . وتتلخّص هذه النظرية في تقسيم التصوّرات الذهنية إلى قسمين : تصوّرات أوّلية . وتصوّرات ثانوية . فالتصوّرات الأوّلية هي الأساس التصوّري للذهن البشري ، وتتولّد هذه التصوّرات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة . فنحن نتصوّر الحرارة لأنّنا أدركناها باللمس ، ونتصوّر اللون لأنّنا أدركناه بالبصر ، ونتصوّر الحلاوة لأننا أدركناها بالذوق ، ونتصوّر الرائحة لأننا أدركناها بالشمّ .. وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسّنا ، فإنّ الإحساس بكلّ واحد منها هو السبب في تصوّره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري . وتتشكّل من هذه المعاني القاعدة الأوّلية للتصوّر ، وينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة التصوّرات الثانوية ، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء ، وهو الذي نصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأوّلية ، وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحسّ وإن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدّمها الحسّ إلى الذهن والفكر .
وهذه النظرية تتّسق مع البرهان والتجربة ، ويمكنها أن تفسِّر جميع المفردات التصوّرية تفسيراً متماسكاً .
فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلّة والمعلول ، والجوهر والعرض ، والوجود [ والعدم، والكثرة ] والوحدة في الذهن البشري . إنّها كلّها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة ، فنحن نحسّ ـ مثلاً ـ بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مئة ، وقد يتكرّر إحساسنا بهاتين الظاهرتين ـ ظاهرتي الغليان والحرارة ـ آلاف المرّات ولا نحسّ بعلّية الحرارة للغليان مطلقاً ، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلّية من الظاهرتين اللتين يقدِّمهما الحسّ إلى مجال التصوّر .
ولا نستطيع في مجالنا المحدود أن نعرض لكيفية الانتزاع الذهني وألوانه وأقسامه ؛ لأنّنا لا نتناول في دراساتنا الخاطفة هذه إلاّ الإشارة إلى الخطوط العريضة .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة