علمٌ وفكر

تنمية العقل (الفكر النقدي) (2)

 

الشهيد مرتضى الطهري .. 
ينبغي للعقل أن يكون غربالاً:

لدينا رواية معروفة في باب (العقل والجهل) من كتاب الكافي والبحار وتحف العقول ، وقد نقلها هشام بن الحكم المتكلم الشهير عن الإمام موسى بن جعفر(ع) مخاطباً هشاماً وهي رواية مفصّلة، وفيها يستند الإمام على قوله تعالى في سورة الزمر: {فبشّر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} ، إنّها آية عجيبة، فيا ترى هل أن هؤلاء يصدّقون بكل ما يسمعونه وينفذونه؟ أو أنّهم يرفضونه مرة واحدة.
إنّهم يستمعون الكلام وينتقدونه ويزنونه فينتخبون أحسنه ويتبعونه، ثم يقول تعالى أولئك الذين هداهم الله، أي ألهمهم الاستفادة من قوة العقل.
قال الإمام لهشام: يا هشام إنّ الله تعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: {فبشّر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه...}.
يظهر من هذه الآية والحديث بشكل كامل أنّ أبرز صفات العقل الإنساني هي التمييز والفرز، فرز الكلام الصادق عن الكاذب، والضعيف عن القوي، والمنطقي عن غير المنطقي، والخلاصة: إنّه يقوم بعملية غربلة للكلام، لا يكون العقل عقلاً ما لم يكن غربالاً يزن كل ما يرد عليه ويغربله فيرمي ما لا ينفع خارجاً ويحتفظ بما ينفع.
هناك حديث عن الرسول الأكرم، ناظر إلى هذا المطلب يقول: "كفى بالمرء جهلاً أن يحدّث بكلّ ما سمع" ، توجد عند البعض خاصية المسجل، يمتلئون بكل ما يسمعون، وبعد ذلك يكررونه في محل آخر دون أن يشخّص أنّ ما سمعوه كان صحيحاً أم خاطئاً.
هناك بعض العلماء أقل عقلاً ممّا علموه، فهم علماء بمعنى أنّ لديهم معلومات كثيرة، لكنهم عاقلون بنحو أقل، لأنهم يجمعون كل شيء أينما يرونه وينقلونه بأجمعه دون أن يتدبروه، ليروا هل أنّه يتلاءم مع الواقع أم لا؟ والعجيب أنّه مع وجود روايات تقول: إنّ الراوي ينبغي أن يكون ناقداً، وأن لا ينقل كل ما سمعه، نرى الكثير من هؤلاء المحدثين والرواة والمؤرخين لا يراعون هذه القاعدة.

انتقاد ابن خلدون
أحد الانتقادات التي يوجهها ابن خلدون في مقدمة تاريخه لبعض المؤرخين أنّهم يبحثون عن صحة السند فقط في نقلهم التاريخ، يقول: قبل هذا ينبغي أن نبحث في صحة المضمون، فلا بدّ أولاً من التفكير في أنّ هذا المطلب هل ينسجم مع المنطق أو أنّه لا ينسجم، ثم يمثل لذلك بقوله: إنهم كتبوا أنّه عندما اجتاز قوم موسى(ع) البحر وتعقبهم الفراعنة كانوا مائتين وخمسين ألف رجل محارب، ولا بد من تمحيص هذا الأمر، فإنّ بني إسرائيل كلّهم اولاد يعقوب وهو شخص واحد، ولم يمض عليه خمسة أو ستة أظهر 164 سنة وذكروا أيضاً أنّها 400 سنة فحتى لو مضى 400 سنة فإذا قلنا أن عددهم 250000 ألف رجل محارب فلا بد أن يكون عددهم في الأقل مليون شخص ربعهم جنود مع أنّ فرعون كان يقوم بقتل أبنائهم: {يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} وهذا أمير غير مقبول عقلاً.
يقول ابن خلدون: إنّ المؤرخين لم يلتفتوا إلى أن هذه الواقعة التي ينقلونها تلائم المنطق أم لا؟
قرأت يوماً في كتب التاريخ المتداولة التي كتبها أشخاص كبار: انّه في واقعة الحرّة أحدثوا القتل الذريع في المدينة، وقد دخلوا بيت شخص من أهل المدينة وكان من الأنصار ـ وكانت عائلته فقيرة وامرأته قد وضعت حملها قريباً، وكانت راقدة في الفراش والطفل في مهده، فدخل رجل شامي ليأخذ شيئاً من هذا البيت، فتوسلت به المرأة قائلة: أنا زوجة فلان أحد أصحاب رسول الله وقد بايعنا رسول الله في بيعة الرضوان، فلم ينفع ذلك وأخذ الرجل الشامي برجل الطفل وأداره حول رأسه ثم ضرب به الجدار فتناثر مخّه.
نقل هذه الواقعة عدد كبير، فهل يكفي هذا في صحتها؟ يعني هل يمكن للمرأة التي بايعت مع زوجها رسول الله في بيعة الرضوان أن تضع حملاً في سنة 63 للهجرة بعد فاصلة زمنية قدرها 58 سنة؟ فلو فرضنا أنّها في ذلك الوقت كانت صبية عمرها عشر سنوات متزوجة حديثاً وذهبت مع زوجها لمبايعة الرسول، فإنّها تكون الآن في الثامنة والستين من عمرها، فهل يمكن لمن في سنِّها أن تضع حملاً؟ هذه المسائل بحاجة إلى نقد وتمحيص، فلو فكّر الإنسان قليلاً لوقف على مخالفتها للواقع، وهذه هي عملية الغربلة، قال الرسول: "كفى بالمرء جهلاً أن يحدّث بكلّ ما سمع" الجهل غالباً لا يكون في الأحاديث في قبال العلم، بل يكون في قبال العقل، أي عدم التفكير لا عدم العلم، فيكفي في عدم تفكر الإنسان وتمحيصه للأشياء أن يحدّث بكل ما سمع.

نقد الكلام
المسألة الأخرى القريبة من هذا المطلب والتي تستنبط من هذه الآية وبعض الأحاديث هي مسألة تحليل الكلام وعزل العناصر الصحيحة عن العناصر غير الصحيحة، ففرق بين أن يأخذ الإنسان من كلامين الصحيح منهما ويهمل الآخر، وبين تجزئة الكلام بحيث ينتقي الإنسان العناصر الصحيحة، ويفنّد العناصر الخاطئة فيه بحيث تكون له القدرة على التشخيص في أن يقول: هذا الجزء من الكلام صحيح وهذا الجزء غير صحيح، وهذا هو الأمر الذي عبّر عنه في الروايات بالنقد والانتقاد.

عندما يقولون: انتقد الدرهم أو أنقد الكلام، يعني: أظهر عيوبه ومحاسنه، فكما أنّ السكّة عندما توضع في المحك ليتعرفوا أنّها ذهب خالص، ومقدار عياره، فكذلك نقد الكلام معناه عزل محاسنه عن مساوئه.
لدينا بهذا الشأن أحاديث كثيرة وعجيبة منها أن المسيح(ع) قال: "خذ الحق من أهل الباطل ولا تأخذ الحق من أهل الحق" والأظهر أنّه يريد أن يقول: لا تلتفت إلى القائل، بل التفت إلى نفس القول، والشاهد على ذلك الجملة الأخيرة حيث قال: "كونوا نقّاد الكلام" .
ثم ينقل الإمام جملاً في هذا الخصوص: يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلاء، فقال: {وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم، إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنهار... لآياتٍ لقوم يعقلون} .

تدبّر العاقبة
الشيء الآخر الذي يجب أن تقوم تربية العقل على أساسه هو مسألة الاهتمام بالمستقبل، إذ يستند في تربية الإسلامية استناداً كبيراً على هذه المسألة، وأنّه لا ينبغي لكم أن تقيّدوا أنفسكم بهذا العصر، بل التفتوا إلى المستقبل، وضعوا نصب أعينكم العواقب والنتائج النهائية للعمل الذي أنتم بصدد فعله.
حديث مشهور نقلناه عن كتاب (قصص الأبرار) وهو أنّه: قد جاء شخص إلى رسول الله وقال: يا رسول الله عظني، فقال الرسول: وهل ستفعل ما أقوله لك حقّاً؟ فقال: نعم، فكرّر عليه الرسول جملته، فقال: أجل، فكرر الرسول كلامه للمرة الثالثة، وما هذا التكرار من رسول إلاّ لأنّه أراد أن يجعله مستعداً بشكل كامل لما سيقوله له، وما إن أتم ذلك حتى قال له: إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة