مقالات

نشأة العرفان والتصوف عند المسلمين


الشيخ مرتضى مطهري ..
من العلوم التي ولدت في حجر الثقافة الإسلامية وترعرعت وتطورت، ما يسمي بالعرفان.
ويمكننا الكلام حول العرفان من جانبين: أحدهما الجانب الاجتماعي، والآخر الجانب الثقافي .
للعرفاء فرق مهم عن سائر طبقات أصحاب الثقافة الإسلامية كالمفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والأدباء والشعراء. وهو أنهم بالإضافة إلى تكوينهم طبقة ثقافية وعلمية باسم العرفاء وظهور علماء كبار بينهم، وكتب مهمة أوجدوا فرقة اجتماعية خاصة في عالم الإسلام، تختلف عن سائر طبقات أصحاب الثقافة كالفقهاء والحكماء وغيرهم، الذين ليسوا سوى طبقة ثقافية غير متميزة عن سائر الطبقات، أما أهل العرفان فحين يذكرون بعنوانهم الثقافي يذكرون بعنوان«العرفاء»وحينما يذكرون بعنوانهم الاجتماعي يذكرون بعنوان«المتصوّفة».
إن العرفاء والمتصوفة، وإن لم يعدّوا فرقة مذهبية في الإسلام، وهم لا يدّعون هذا، وهم موجودون في كل أو جلّ الفرق والمذاهب الإسلامية الحاضرة، مع ذلك هم فرقة اجتماعية متصلة، إن العرفاء و المتصوفة، وهناك سلسلة من الأفكار والآداب في المعاشرات والألبسة، والأزياء وكيفية تنظيم شعر الرأس واللحية والسكنى في التكايا والخانقات وغيرها، تصبغهم بصبغة فرقة خاصة مذهبية واجتماعية، نعم كان هناك ولا سيما في الشيعة عرفاء لم تكن لهم ميزة ظاهرة عن الآخرين، وهم مع ذلك متشددون في سلوكهم العرفاني، والعرفاء الحقيقيون هم هذه الطبقة، وليس تلك الفرق التي اخترعت صنوف الآداب وأوجدت عشرات البدع.
ولا نبحث في هذه الأبحاث التاريخية عن الجانب الاجتماعي والمذهبي أي جانب «التصوف» من العرفان، وإنما نبحث هنا في الجانب الثقافي بالنظر إلي تطوره التاريخي، أي أنا ننظر إلي العرفان علمًا وفرعًا من فروع الثقافة الإسلامية التي كانت في طول التاريخ وحدة متصلة، وبلا وقفة، وليس بعنوان فرقة أو طريقة اجتماعية.
والعرفان بوصفة حقلاً علميًّا و ثقافيًّا له قسمان: قسم عملي، وآخر نظري.
القسم العملي هو: ذلك القسم الذي يبين وظائف الإنسان وعلاقاته مع نفسه ومع العالم ومع الخالق، والعرفان في قسمه هذا كالأخلاق، أي هو «علم» عملي مع ملاحظة نذكرها بعد هذا، وهذا القسم من العرفان يسمى علم «السير و السلوك» وهذا القسم من العرفان يبين أن «السالك» إلى اللّه كي يصل إلى «التوحيد» أو قمة الإنسانية من أين يجب أن يبدأ وأي مرحلة يجب أن يطوي وأي حال يعرض له في المنازل بين الطريق، ويجب أن يكون ضمن هذه المنازل والمراحل أشراف ومراقبة إنسان كامل، قد طوى هذا الطريق ووعى رسوم هذه المنازل، وإن لم تصحب السالك همّة إنسان كامل هددته المخاطر، ويعبّر العرفاء عن هذا الإنسان الكامل الذي لابد من اصطحابه مع السالكين: «بالخضر» و «طائر القدس».
يقول الحافظ الشيرازي ما معناه: «فيا «طائر القدس» اصطحبني بهمّة*فإن طريق الوصل جدّ طويل» ويقول: «ولا تتركن هذي المراحل دون أن*تكون مع «الخضر» الظلام وخيم».
القسم العملي هو: ذلك القسم الذي يبين وضائف الإنسان وعلاقاته مع نفسه ومع العالم ومع الخالق، والعرفان في قسمه هذا كالأخلاق، والتوحيد الذي ينظر إليه العارف أنه قمة الإنسانية المنيعة وأنه آخر مراحل سير العارفين، يختلف مع التوحيد في نظر العوام، وحتى مع توحيد الفيلسوف في أن واجب الوجود واحد لا شريك له، اختلافا اساسيًّا كالبعد بين الأرض والسماء، إن توحيد العراف يعني أن الموجود الحقيقي منحصر بذات اللّه تعالى، وإن ما سوى اللّه ظاهرة وجود لا نفس الوجود. توحيد العارف يعني: لا شي ء إلاّ اللّه، توحيد العارف يعني التوصل إلى مرحلة لا يرى فيها السالك العارف إلاّ اللّه، ولا يؤيد هذه المرحلة من التوحيد، مخالفو العرفاء، بل يرونه أحيانا إلحادًا وكفرًا، في حين يعتقد العرفاء أن هذا هو التوحيد الحقيقي وأن كل مراتب التوحيد لا تخلو من شرك، ويرى العرفاء أن الوصول إلى هذه المرحلة ليس من علم الفكر والعقل، بل هو من عمل القلب، والمجاهدة والسير والسلوك وتصفية النفس وتهذيبها.
وعلى أية حال، فإن هذا القسم من العرفان هو القسم العملي، وهو بهذا النظر كعلم الأخلاق يبحث عما يجب أن يعمل، ولا يعمل مع الثلاثة فوارق الآتية:
أولا إن العرفان يبحث عن علاقات الإنسان مع نفسه ومع العالم ومع اللّه، وعمدة نظرة في علاقات الإنسان بربه، بينما لا يرى جميع الأخلاقيين ضرورة أن يبحثوا حول علاقات الإنسان بربه، إلاّ الأخلاقيون المتديّنون، فهؤلاء يعنون بهذا الجانب من علاقات الإنسان.

ثانيا: إن السير والسلوك أمران متحركان كما يبدوا من مفهوم هاتين الكلمتين بخلاف الأخلاق، فإنه بحث هادئ ساكن، الكلام في العرفان عن نقطة البدء وعن المقصد والمنازل والمراحل التي يجب علي السالك سلوكها ليصل إلى النهاية، العارف يرى بدون أية شائبة أن للإنسان صراطًا لا يصل إلى منزل حتى يجتاز منزلًا سابقًا، ويرى العارف أن روح الإنسان كروح الطفل أو النبات، وكماله في تطوره وفق نظام خاص، بينما ليس الكلام في الأخلاق إلاّ عن لزوم اتصاف الروح بسلسلة من الفضائل من قبيل الصدق والعدالة والعفة والإحسان والإنصاف والإيثار وغيرها، الأخلاق ترى أن روح الإنسان يجب أن تزين بسلسلة من الزينة والحلي والنقوش، وفي العرفان أيضا يأتي الكلام عن العناصر الأخلاقية، ولكن بصورة ديالكتيكية متحركة.
ثالثًا: إن العناصر الروحية والأخلاقية محدودة بمفاهيم ومعان معروفة لأكثر الناس، في حين أن الكلام في السير والسلوك العرفاني يأتي عن أحوال وخطرات لا قلبية تحصل إلاّ لسالك السبيل في خلال المجاهدات وطي الطرق، ولا سبيل لسائر الناس إلى هذه الأحوال والخطرات.
القسم الآخر من العرفان في تفسير الوجود، أي تفسير الخالق والعالم والإنسان، والعرفان في هذا القسم كالفلسفة يحاول تفسير الوجود، بخلاف القسم الأول الذي هو كالأخلاق، يحاول تغيير الإنسان إلى الأفضل، وكما هناك فوارق بين الأخلاق والعرفان كذلك هنا توجد فوارق بين العرفان والفلسفة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة