علمٌ وفكر

نوع العلاقة بين الدنيا والآخرة


الشيخ مصباح اليزدي ..
توجد علاقة عكسية بين الإيمان والعمل الصالح مع العذاب الأخروي، وبين الكفر والمعصية مع النعم الأبدية. ومما لا يقبل الشك والتردد اعتراف القرآن الكريم بمثل هذه العلاقات والروابط، فإنكارها بمثابة إنكار القرآن الكريم.
ولكن تبرز بعض المسائل حول هذا الموضوع الضروري، تحتاج إلى مزيد من البحث والتوضيح، أمثال: هل إن مثل هذه العلاقات المذكورة علاقات حقيقية وتكوينية، أم أنها للوضع والتعاقد؟ وما هي العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح، وكذلك بين الكفر والمعصية؟ وهل يوجد تأثير وتأثر بين الأعمال الحسنة والسيئة نفسها؟
وفي هذا الدرس، نبحث في المسألة الأولى لنوضح أن العلاقات المذكورة ليست أموراً جعلية وتعاقدية.


علاقة حقيقية أم تعاقدية
ذكرنا مرارًا أن العلاقة بين الأعمال الدنيوية، والنعم والعذاب الأخروي، ليست من قبيل العلاقات المادية والمتعارفة، ولا يمكن تفسيرها على أساس القوانين الفيزيائية والكيميائية وأمثالها، بل حتى من اعتقد وتصور أن الطاقة التي بذلت واستخدمت في ممارسة الأعمال الإنسانية، سوف تتجسم في الآخرة على أساس نظرية تبديل المادة إلى طاقة وبالعكس، وستظهر في الآخرة على شكل نعم أو عذاب أخروي، فإنه مخطئ في اعتقاده وذلك:
أولا: لأن الطاقة التي استخدمها الإنسان في أقواله وأفعاله ربما لا يمكن تبديلها إلى تفاحة واحدة، فضلاً عن تبديلها إلى نعم الجنة التي لا تعد ولا تحصى!
وثانيا: لأن تبديل المادة إلى الطاقة وبالعكس إنما يتم وفق عوامل خاصة معينة، ولا علاقة لها بحسن الأفعال وقبحها، ونية الفاعل، ولا يمكن التمييز وفق أي قانون طبيعي، بين الأعمال الصادرة عن إخلاص والأعمال الصادرة عن رياء، حتى تتبدل طاقة احداهما للنعمة وطاقة أخرى العذاب.
 وثالثا: لأن الطاقة التي استخدمت مرة في طريق العبادة، من الممكن أن تستخدم مرة أخرى في طريق المعصية.
ولكن إنكار مثل هذه العلاقة لا يعني إنكار مطلق العلاقة الحقيقية، وذلك لأن نطاق العلاقات الحقيقية يشمل أيضاً تلك العلاقات المجهولة والتي لا تخضع للتجربة، وأن العلوم التجريبية كما لا يمكنها إثبات العلاقة العلية بين الظواهر الدنيوية والأخروية، كذلك لا يمكنها إبطال أي نوع من أنواع العلاقة العلية والمعلولية بينها، وافتراض تأثير الأعمال الحسنة أو القبيحة في الروح الإنسانية، وأن تلك الآثار الروحية موجبة لوجود النعم أو العذاب الأخروي - نظير تأثير بعض النفوس في بعض الظواهر الدنيوية الخارقة للعادة - مثل هذا الافتراض لا يمكن اعتباره افتراضاً غير معقول، بل يمكن إثباته وفق اصول فلسفية خاصة.


شواهد قرآنية
وأما الآيات القرآنية، وإن خطر في الذهن من أكثر مواردها وجود العلاقة الجعلية والتعاقدية - أمثال الآيات التي اشتملت على تعبير الأجر والجزاء- ولكن يمكن أن نستفيد من آيات اخرى. أن العلاقة بين أفعال الإنسان، والثواب أو العقاب الأخروي، تتجاوز العلاقة الجعلية والتعاقدية. ومن هنا يمكن القول إن تعبيرات المجموعة الأولى من الآيات إنما صدرت من أجل تسهيل التفهيم وتبسيطه، ورعاية لفهم أغلب الناس، الذين هم أكثر استيعابًا وتعودًا لمثل هذه المفاهيم.
وكذلك نلاحظ وجود شواهد عديدة في الروايات الشريفة، تدل على أن لأفعال الإنسان الاختيارية صورًا ملكوتية مختلفة، تظهر في عالم البرزخ والقيامة. والآن نلاحظ نماذج من الآيات التي تدل على وجود العلاقة الحقيقية بين أفعال الإنسان ونتائجها الأخروية:
"وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله".
"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا".
"يوم ينظر المرء ما قدمت يداه".
"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".
"هل تجزون الا ما كنتم تعملون".
"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا". ومن البديهي أن مجرد رؤية الإنسان في يوم القيامة لما عمله في الدنيا من أعمال، ليست في حد ذاتها ثوابًا وعقابًا عليها، بل إن الصور الملكوتية لتلك الأعمال تظهر آنذاك بأشكال مختلفة من النعم والعذاب، والإنسان يتنعم أو يتعذب بها، كما يستفاد من الآية الأخيرة، إن الصورة الباطنية لآكل مال اليتيم هي أكل النار، وحين تظهر وتنكشف الحقائق في ذلك العالم الآخر، فسوف يرى الإنسان أن باطن ذلك الغذاء المحرم كان نارًا، وسيدرك احتراق بطنه، سيقال له: ليست هذه النار إلا ذلك المال المحرم الذي أكلته!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة