من التاريخ

قصة حنين


الشيخ محمد جواد مغنية ..
قال تعالى {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25، 26] حنين واد بين مكة والطائف ، وتسمى غزوته بغزوة حنين ، وغزوة أوطاس وغزوة هوازن ، وكانت في شوال سنة ثمان للهجرة .
لما فتح النبي (صلى الله عليه وآله) مكة خافته هوازن وثقيف ، فجمعوا لحربه الألوف ، وبلغ رسول اللَّه ما أجمعوا عليه ، فتهيأ للقائهم باثني عشر ألف رجل ، عشرة من أصحابه الذين فتح بهم مكة ، وألفان من الطلقاء ، ومنهم أبو سفيان وابنه معاوية .
وتوجه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هوازن ، وكان طريقه على وادي حنين ، وكان ضيقًا منحدرًا ، وكان جيش العدو قد سبقهم إلى احتلال مضايقه ، وكمن فيها ، وما إن وصل المسلمون إلى قلب الوادي ، حتى أمطرهم العدو بوابل من سهامه ، فانهزم الناس ، وأولهم أبو سفيان . قال الشيخ الغزالي في فقه السيرة : « وعاد إلى بعضهم كفره باللَّه ورسوله ، فقال أبو سفيان : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، ولا عجب فإن الأزلام التي كان يستقسم بها في جاهليته لا تزال في كنانته » .
وثبت مع رسول اللَّه علي شاهرًا سيفه بين يدي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) والعباس آخذًا بلجام بغلته ، والفضل بن العباس عن يمين النبي ، والمغيرة بن الحارث بن عبد المطلب وزيد بن أسامة ، وأيمن بن أم أيمن ، وقتل بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله) . وحين رأى المشركون انهزام المسلمين خرجوا من شعاب الوادي ، وقصدوا رسول اللَّه ، فقال لعمه العباس ، وكان جهوري الصوت : ناد القوم ، وذكرهم العهد ، فنادى بأعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة أين تفرون ؟
اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول اللَّه ، فلما سمع الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم ، وهم يقولون : لبيك ، لبيك فاستقبل بهم النبي الأعداء واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا .
وكان حامل راية المشركين وطليعتهم رجل يدعى أبا جرول ، فكان يكر على المسلمين وينال منهم ، فبرز له علي بن أبي طالب وقتله ، وبقتله تفرقت جموع المشركين ، وتم النصر للنبي والمؤمنين ، ولما علم الطلقاء بانتصار المسلمين وكثرة الغنائم رجعوا إلى رسول اللَّه . وفي تفسير البحر المحيط أن الطلقاء فروا وقصدوا بذلك إلقاء الهزيمة في المؤمنين . وقال الشرقاوي في كتاب ( محمد رسول الحرية ) :
« إن ألفين من قريش ، على رأسهم أبو سفيان أسلموا خوفًا أو طمعًا قد جاؤوا اليوم لا لينصروا الإسلام ، بل ليخذلوه ، وليشيعوا الانهزام بين المجاهدين القدماء ! ! » .
وهكذا المنافقون والانتهازيون يتظاهرون بالإخلاص ، ويندسون في صفوف الأحرار يدبرون المؤامرات ، فإن نجحت بلغوا ما يريدون ، وإن نجح الأحرار قالوا لهم : نحن وأنتم شركاء . وتقدم الكلام عن هؤلاء في ج 2 ص 466 .
( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) منها وقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة : ( ويَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) قال الرازي : « إن رجلًا من المسلمين قال : لن نغلب اليوم من قلة ، فساء ذلك رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) ، وقيل : إنه هو قالها ، وقيل : قالها أبو بكر ، وإسناد هذه الكلمة إلى الرسول بعيد » .
( فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) .
فمن الإعجاب بالكثرة إلى أبشع الهزائم التي لم يجدوا معها في الأرض مكانًا ينجيهم من عدوهم ، وهذه نهاية كل من تاه بغروره ، واستهان بعدوه .
( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) السكينة الثقة والاطمئنان ، ومعنى إنزالها على النبي (صلى الله عليه وآله) بقاؤه ثابتًا في قلب المعركة ساكن الجأش ، شديد البأس يدبر الأمر ويحكمه على الرغم من فرار جيشه الذي بلغ 12 ألفًا إلا نفرًا لا يتجاوزون العشرة ، وجيش العدو يعد بالألوف . . قال الرواة : كان النبي يدفع ببغلته نحو العدو ولا يبالي ، وهو ينادي المنهزمين ، ويقول : إلي عباد اللَّه أنا رسول اللَّه أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب . . والمؤمنون الذين أنزل اللَّه سكينته عليهم هم الذين ثبتوا مع رسول اللَّه ولم يفروا عنه ، والذين عادوا إلى المعركة بعد الهزيمة ، واستجابوا لنداء النبي مخلصين ، ومعنى إنزال السكينة عليهم تسكين قلوبهم ، وإزالة الخوف والرعب منها .

( وأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) قال الرازي : « لا خلاف أن المراد إنزال الملائكة » . أما نحن فنعتقد أن للَّه جنودًا من الملائكة وغير الملائكة لا تحصى أنواعها فكيف أفرادها ! . ومن تلك الأنواع قوى النفس وغرائزها ، ومنها قوى خارجية ، والآية لم تبين نوع هذه الجنود التي أنزلها اللَّه يوم حنين ، لذلك نترك علمها للَّه الذي قال : « وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ - 31 المدثر » . ( وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) عذبهم في الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة وأخذ الأموال ، وعذبهم في الآخرة بنار جهنم وسوء المصير .
( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . إن اللَّه كريم لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم ، وبابه مفتوح لكل طارق ، فمن فر عن رسول اللَّه من المسلمين ، ثم تاب فإن اللَّه يحب التوابين ، ومن كفر وحارب اللَّه ورسوله ، ثم تاب وآمن وعمل صالحًا فهو من المفلحين . قال المؤرخون : بعد أن انتهت المعركة ، ووزعت الغنائم جاء وفد من هوازن مسلمًا ، وقالوا :  يا رسول اللَّه أنت خير الناس وأبرّهم ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا .
فقبل إسلامهم ، ورد عليهم النساء والعيال .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد