قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي....﴾


الشيخ محمد صنقور ..
المراد من قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ هو أنه تعالى لا يمتنع من التمثيل بأي شيء مهما كان حقيراً إذا كان ذلك يُساهم في تجسيد المعنى الذي يُريد إيصاله للناس لغرض هدايتهم.


 منشأ نزول الآية المباركة:
وقد ورد أنَّ منشأ نزول الآية المباركة هو أنَّ جمعاً من المنافقين سخروا من تمثيل القرآن الكريم بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ وقوله تعالى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
فالمنافقون اتخذوا من تمثيل القرآن بالذباب والعنكبوت مادةً لسخريتهم وقالوا إنَّ القرآن لم يجد سوى هذين الموجودين المستحقريَن يمثل بهما.


الغرض من تمثيل القرآن بالمحقرات:
فنزلت الآية المباركة موضحةً أنَّ الغرض من ضرب الأمثال هو تجسيد المعنى الذي يُراد تفهميه للمخاطب، وهذا ما قد يقتضي التمثيل بما دون الذباب والعنكبوت وهو البعوض كما قد يقتضي التمثيل بما فوق ذلك أي بما هو أدنى من البعوض، فلا غضاضة على القرآن الكريم في تمثيله بالذباب والعنكبوت بعد أنْ كانت خصوصيات المعنى المُراد إفهامه للمخاطب لا يتم إلا بضربهما مثلاً للمراد.
فلأنَّ القرآن أراد التنبيه على عجز من يدَّعي المشركون ربوبيتهم لذلك جعل من التمثيل بالذباب وسيلةً لذلك، فهم لو اجتمعوا وتآزروا لما كان بوسعهم خلق ذبابة رغم حقارتها فكيف تُدَّعى لهم ربوبية هذا الكون على سعته وعظمته بل لو أنَّ هذه الذبابة قد سلبتهم شيئاً لما كان بمقدورهم استنقاذه منها، فهم أضعف من أن يستنقذوا ما قد سلبتهم إياه.
 وبذلك يكون القرآن قد عبَّر عن العجز المطلق لهؤلاء الأرباب بعد أن نبَّه على عجزهم عن خلق ما هو حقير بنظر المعتقدِين بهم بل وعجزهم عن الذود عن أنفسهم وحياطتها عن تعدِّي مَن هو في وجوده وقدرته أحقر من أن يُعتنى به عند المعتقدِين بربوبيتهم.
فلو أنَّ القرآن مثَّل لعجز أرباب المشركين بعدم قدرتهم على خلق السماوات والأرض والشمس والقمر لما بلغ غايته في التعبير عن عجز أربابهم المطلق، لأنَّ عدم القدرة على خلق السماوات لا يقتضي عدم القدرة على خلق ما هو دونها وأما العجز عن خلق المحقَّرات من الموجودات فهو يقتضي العجز عن خلق ما هو فوقها.
 على أنَّ التمثيل بالذباب وهو الوجود المستقذَر عند المخاطب يُساهم في توهين من أُريد إثبات عجزه، وهذه الخصوصية قد لا يتاح إيحاؤها عند التمثيل بغير الذباب، لذلك جاء التمثيل بها مُفحِماً للخصم وموجباً لتسفيه رأيه.
 وأما التمثيل ببيت العنكبوت فلأن القرآن الكريم أراد التعبير عن منتهى وهن من اتَّخذهم الكافرون أرباباً من دون الله بتوهُّم أن لهم القدرة على حمايتهم من غوائل الدنيا وأخطارها، فلأنَّ المخاطَب لا يعلم شيئاً أكثر وهناً من بيتوتات العنكبوت التي سرعان ما تتمزَّق ويتلاشى نسيجها بمجرد هبَّةِ ريح أو رفَّة طير أو عبث طفل أو هطول قطرات من مطر، فالقرآن الكريم أراد أن يعبِّر عن ضعف أولياء الكافرين فنظَّر لحال الكافرين حينما يلجأون إلى أوليائهم بلجوء العنكبوت إلى بيتها الواهن، فكما أن بيتها لا يكاد يحميها من شيء كذلك هم أولياء الكافرين.
فالقرآن قد بلغ غايته في التعبير عن ضعف أولياء الكافرين حينما شبَّه اللجوء إليهم بلجوء العنكبوت إلى بيتها، ولو نظَّر لحالهم بلجوء الحيوان مثلاً إلى جحره أو الطيور إلى أعشاشها لما تأدَّى الغرض الذي أراد إفهامه للمخاطَب وهو أنَّ أولياء الكافرين في منتهى الضعف والوهن، ذلك لأن بيوت غير العنكبوت لن يكون أوهنَ من بيتها بنظر المخاطَب.
والمتحصل أنَّ القرآن عندما يتَّخذُ من شيء مثلاً يراعي في ذلك مناسبته للتعبير عن غرضه بقطع النظر عن حقارة ذلك الشيء أو خطورته.


 معنى الاستحياء المنفي:
ثم إنَّ المراد من الاستحياء في قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾(6) ليس هو الاستحياء المناسب للإنسان والذي يعني انقباض النفس عن فعل شيء خشية ذم الناس مثلاً بل المراد من الاستحياء في الآية هو أثره وهو الترك والامتناع، فمعنى أنَّ الله لا يستحي أن يضرب مثلاً هو أنَّه تعالى لا يمتنع من أن يضرب مثلاً ولا يترك التمثيل به.
والتعبير عن عدم الترك وعدم الامتناع بعدم الاستحياء لمناسبة أنَّ منشأ ترك التمثيل بالمحقَّرات عند الإنسان هو الاستحياء، فالباعث للإنسان على ترك التمثيل بالمحقرات لما كان هو الاستحياء لذلك ناسب أنْ يستعيض القرآن عن التعبير بالامتناع والترك بالاستحياء، لأنها منشأ الترك والامتناع عند الإنسان ولكنها لا تكون منشأً للترك والامتناع عند الله جلَّ وعلا، لأنَّ الحياء من شئون النفس الإنسانية وهو منزَّه عن ذلك جلَّت أسماؤه وتقدَّست، فاستعمال عدم الاستحياء وإرادة عدم الترك من استعمال المؤثِّر عند المخاطَب وإرادة أثره.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد