قرآنيات

شروط معرفة القرآن


الشهيد مرتضى مطهري ..
يتطلب التعرف على القرآن بعض المقدمات التي سوف نوردها فيما يلي: إن من أهم الشروط اللازمة للتعرف على القرآن هو معرفة اللغة العربية، فبمثلما يتطلب التعرف على حافظ وسعدي معرفة اللغة الفارسية، كذلك لا يمكن التعرف على القرآن المكتوب باللغة العربية إلا بمعرفة اللغة العربية. والشرط الآخر هو معرفة تاريخ الإسلام، ذلك لأن القرآن لم ينزل دفعة واحدة مثل التوراة والانجيل. وإنما استغرق نزوله ثلاثًا وعشرين سنة من حياة الرسول (ص)، من بعثته حتى وفاته، في غضون سنوات ثائرة من تاريخ الإسلام. ولذلك فإن لآيات القرآن (شأن نزول).
ولا يعني هذا إن معنى الآية محدد بحدودها، بل على العكس من ذلك، إذ إن معرفة شأن النزول تساعد كثيرًا على توضيح مضمون الآية وتمهد السبيل لفهمها. والشرط الثالث هو معرفة أقوال الرسول الأكرم (ص) إذ إنه، حسبما ورد في القرآن، المفسر الأول لهذا الكتاب: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للنّاس ما نزل إليهم...).
وكما في آية أخرى: (هو الّذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيّهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة).
فالرسول، بحسب القرآن، هو المبين لهذا الكتاب والمفسر له، وكل ما وصلنا منه يعيننا على تفسير القرآن. أما نحن الشيعة المعتقدين بالأئمة الأطهار. والمؤمنين بأن ما كان عند الرسول (ص) من الله قد نقله إلى أوصيائه الأكرمين، نرى الروايات الموثوقة التي وصلتنا منهم لها ما للروايات الموثوقة التي وصلتنا من الرسول (ص) نفسه. ولذلك فإن الموثوق به مما يروى عن الأئمة يعيننا على التعرف على القرآن كذلك.
 ثمة نقطة مهمة تجب ملاحظتها عند دراسة القرآن والبحث فيه، وهي إن مجموع آيات القرآن تؤلف بنيانًا متماسك الأجزاء، أي إننا لو أخذنا آية واحدة وقلنا إننا نريد أن نفهم هذه الآية وحدها، فلن نكون قد اتخذنا سبيلًا سويًّا. لا شك إن فهمنا لتلك الآية قد يكون صحيحًا، ولكنه عمل غير سليم، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا.وهذا ما أيده الأئمة الأطهار حسبما ورد على لسان بعض كبار المفسرين. إن للقرآن طريقة خاصة في بيان المسائل، ففي كثير من الأحيان يكون للآية إذا أخذت منفردة مفهومًا يختلف كل الاختلاف عن مفهومها إذا ما وضعت إلى جنب الآيات المشابهة لها في المضمون.
كمثال على طريقة القرآن الخاصة، يمكن أن نشير إلى آياته المحكمات والمتشابهات والتي يحمل العامة عنها تصورًا معينًا، ويظن بعض أن المحكمات هي تلك الآيات التي ترد فيها المسائل بصورة صريحة وبسيطة، والمتشابهات، على العكس، هي التي ترد فيها المواضيع بصورة ألغاز ومعميات ورموز. وعلى هذا يحق للناس أن يقتصروا على التدبر في محكمات آياته الصريحة، ظانين أن متشابهاته عصية على الفهم والتدبر.
 وهنا يبرز هذا السؤال: ما هي فلسفة وجود الآيات المتشابهات؟ لماذا يعرض القرآن آيات غير قابلة للفهم؟ إن الجواب إجمالًا هو أنه لا المحكمات صريحة في معناها، ولا المتشابهات غامضة المعنى. إن الغامضة من التعابير، هي ما يكون معناها مبهمًا ومجملا وفي كلمات لا تفيد المعنى بصورة مستقيمة. فمثلًا عندما كافأ السلطان محمود الغزنوي فردوسي الشاعر مكافأة ضئيلة على الرغم مما عاناه من تعب، فإنه رفض صلة السلطان وأخذ يهجوه في شعره، متهما إياه بالبخل والإمساك، وكان بعض هجوه صريحًا، وبعضه الآخر مبهمًا.
من ذلك قوله ما معناه: "لو كانت أم السلطان ملكة لبلغ ذهبي وفضتي ركبتي".  
ويقول في مكان آخر: "إن كف السلطان محمود، فاتح البلاد، عادت تسعة في تسعة وثلاثة في أربعة فما معنى هذا؟
هنا يستخدم فردوسي تعبيرًا غامضًا أشبه باللغز وهو يقصد أن يقول: X 9 = 81 9و3   12= 4  والمجموع = 93 وهذا يعني إن كف السلطان محمود تشبه الرقم 93، أي إن كفه مضمومة ضمًّا شديدًا باستثناء الإبهام الذي يكون مع السبابة الرقم 9. ويؤلف مع الأصابع الثلاثة الاخرى الرقم 92. وبهذا يشير فردوسي إلى خسة السلطان محمود.
 والآن، هل في القرآن آيات ذوات ألغاز؟ إن هذا يتنافى مع نصوص القرآن التي تقول إن القرآن كتاب ينير الطريق، ويفهمه كل الناس، وآياته نور وهداية. إن السر في ذلك هو أن بعض المسائل المطروحة في القرآن تدور حول ما وراء الطبيعة والأمور الغيبية. وهي أمور غير قابلة للإفصاح عنها بالألفاظ.
 وكما يقول الشيخ الشبستري: "لا يمكن ضم المعاني في الحرف، بمثلما لا يمكن ضم البحر اللامتناهي في إناء"  ولكن لما كانت لغة القرآن هي لغة الناس ذاتها. فكان لا بد لتلك المواضيع الدقيقة المعنوية أن ترتدي تعابير مما يستعملها الناس للمواضيع المادية. ولغرض الحيلولة دون وقوع سوء فهم. فقد طرحت بعض الآيات بحيث لا تكون مندوحة عن الرجوع إلى آيات أخرى للاستعانة بها في تفسيرها. وما من سبيل غير هذا في ذلك. مثلًا، إن القرآن أراد أن يتطرق إلى حقيقة "رؤية الله قلبيًّا" أي إن الإنسان قادر على أن يرى الله بقلبه.
 هذه الحقيقة وردت هكذا: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

فالقرآن يستخدم هنا لفظة النظر لعدم وجود كلمة أخرى تناسب المقصود. ولكنه لكي يحول دون حدوث أي سوء فهم يقول في مكان آخر:(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).
فلا شك في إن القارئ سوف ينتبه. على الرغم من التشابه اللفظي. أن ليس بين هذين الأمرين علاقة. وأنهما منفصلان كل الانفصال. ولئلا تختلط تلك المعاني الرفيعة الشامخة بالمعاني المادية.
 يطلب القرآن منا أن نرجع بالمتشابهات على المحكمات: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب).
والمحكمات هن اللواتي لا يمكن إخراجهن عن معانيهن، ولا أن نستنتج منهن معاني أخرى. تلك هي الآيات الأم. فكما أن الطفل يرجع إلى أمه، هي مرجع طفلها - أو كما أن أم القرى هي مرجع المدن الصغرى، كذلك تكون الآيات المحكمات مراجع للآيات المتشابهات.
 فالمتشابهات للفهم والتدبر، ولكن بعد الرجوع إلى المحكمات، فبغير عون الآيات الأم لا يكون ما نأخذه من الآيات المتشابهات موضع اعتبار.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد