من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

النبي شعيب (2)


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
جواب شعيب
ولكن شعيبًا ردّ على من اتهمه بالسفه وقلّة العقل بكلام متين و﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾.
أنه يريد أن يفهم قومه أن في عمله هذا هدفًا معنويًا وإنسانيًا وتربويًا، وأنه يعرف حقائق لا يعرفها قومه، والإنسان دائمًا عدوّ ما جهل. ثم يضيف هذا النبي العظيم قائلاً: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ فلا تتصوروا أنني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا أفعل ذلك كله، كلا فإنني لا أفعل شيئًا من ذلك أبدًا.
ويستفاد من هذه الجملة أنهم كانوا يتهمون شعيبًا بأنه كان يريد الربح لنفسه، ولذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحةً ويقول تعقيبًا على ما سبق ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
وأسعى للاستعانة به على حل المشاكل، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق، وأعود إليه أيضًا.
ثم ينبههم إلى مسألة أخلاقية، وهي أنه كثيرًا ما يحدث للإنسان أنه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو التعصب الأعمى واللجاجة في شيء ما، فيقول لهم ﴿وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾ فتبتلوا بما ابتلى به غيركم ﴿أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليه سافلها ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ فلا زمانهم بعيد عنكم كثيرًا، ولا مكان حياتهم، كما أن أعمالكم وذنوبكم لا تقل عن أعمالهم وذنوبهم أيضًا.
و(مدين) التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن قوم لوط، لأن الموطنين كلاهما كانا من مناطق (الشامات) وإذا كان بينهما فاصل زمني، فلم يكن الفاصل بالمقدار الذي يستدعي نسيان تأريخه، وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإخلال بالنظام الاجتماعي وإماتة الفضائل الخُلقية وإشاعة الانحراف.

التهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه
إن شعيبًا هذا النبي العظيم الذي لُقِّب بخطيب الأنبياء لخطبه المعروفة والواضحة، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة الماديّة والمعنوية لهذه الجماعة، واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة والقلب المحترق، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟!
لقد أجابوه بأربع جمل كلّها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم:
فأولها: أنهم قالوا: ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ﴾... فكلامك أساسًا ليس فيه أول ولا آخر، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس لديك شيء نجعله ملاكًا لعملنا، فلا ترهق نفسك أكثر! وامض إلى قوم غيرنا...
والثانية: قولهم ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾ فإذا كنت تتصور أنك تستطيع إثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوة فأنت غارق في الوهم.
والثالثة: هي أنه لا تظن أننا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفًا منك ومن بأسك، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾!
وقولهم الأخير: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ فمهما كانت منزلتك في عشيرتك، ومهما كنت كبيرًا في قبيلتك إلا أنه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.
ولكن شعيبًا دون أن يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجبًا وقال: ﴿يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ﴾ أفتذروني من أجل رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة أنفار ولا ينالني منكم سوء، فلِمَ لا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن أن تقارن عدّة أفراد بعظمة الله سبحانه ... وأنتم لم تهابوه وتوقّروه ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا﴾.
وفي الختام يقول لهم: لا تظنوا أن الله غافل عنكم أو أنه لا يرى أعمالكم ولا يسمع كلامكم، بل ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.
حيث أن المشركين من قوم شعيب هدّدوه في آخر كلامهم بالرجم، وأبرزوا قوتهم أمامه، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي: ﴿وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾.
أي انتظروا لتنتصروا عليّ بقواكم وجماعتكم وأموالكم، وأنا منتظر أيضًا أن يصيبكم الله بعذابه ويهلككم جميعًا.


عاقبة المفسدين
قرأنا في قصص الأقوام السابقين مرارًا، أن الأنبياء كانوا في المرحلة الأولى يدعونهم إلى الله ولم يألوا جهدًا في النصيحة والإبلاغ وبيان الحجّة، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعة ينذرها نبيها ويخوِّفها من عذاب الله، ليعود إلى طريق الحق من فيه الاستعداد ولتتم الحجّة عليهم، وفي المرحلة الثالثة، وبعد أن لم يُغن أي شيء ممّا سبق  تبدأ مرحلة التصفية وتطهير الأرض، وينزل العقاب فيزيل الأشواك من الطريق.
وفي شأن قوم شعيب - أي أهل مدين - وصل الأمر إلى المرحلة النهائية أيضًا، إذ يقول القرآن الكريم فيهم: ﴿وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾.
(الصيحة) معناها كل صوت عظيم، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السماوية، هذه الصيحة يحتمل أن تكون صاعقة من السماء أو ما شابهها، وقد تبلغ الأمواج الصوتية حدًّا بحيث تكون سببًا لهلاك جماعة من الناس.
ثم يعقِّب القرآن فيقول: ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي: أجسادًا هامدة بلا روح، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر...
وهكذا طُوي سجّل وطومار حياتهم ﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا﴾.
إن حرًا شديدًا محرقًا حلّ في أرضهم سبعة أيام، ولم يهب نسيم بارد مطلقًا، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء - بعد السبعة أيام - وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، واستظلّوا تحت السحاب من شدة الحر.
وفجأة سقطت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، وأحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعًا.
وانطفأ بريق كل شيء فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.
وكما كانت نهاية عاد وثمود - وقد حكى عنهما القرآن - فهو يقول عن نهاية مدين أيضًا ﴿أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾.
وواضح أن المقصود من كلمة (مدين) أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة