سياحة ثقافية

مدينة النجف الأشرف (3)


السيد جعفر مرتضى ..

مشهد علي(ع) عبر العصور:
قد عرفنا: أن موضع القبر ظل سراً مكتوماً لا يعرفه إلا أهل البيت، وخواص شيعتهم إلى انقضاء دولة الأمويين ومجيئ دولة العباسيين، فحينئذ دلّ العلويون بعض الشيعة عليه، وصاروا يتعاهدونه، وصار في معرض الظهور والخفاء، يثبته قوم وينفيه آخرون.
فلما رأى داود بن علي عباسي إقبال الناس على موضع القبر أمر – على ما قيل – بعض الفعلة بالمضي إلى هذا القبر الذي افتتن به الناس، ويقولون: إنه قبر علي، حتى ينبشوه ويجيئوه بأقصى ما فيه، فمضوا إليه وحفروا خمسة أذرع فوصلوا إلى موضع صلب لم يقدروا عليه، فاستعانوا بغلام معروف بالشدة، ولكن هذا الغلام بعد أن ضرب ثلاث ضربات صاح، وصار لحمه ينتثر إلى أن مات فلما عرف داود بالأمر تاب، وأمر علي بن مصعب بن جابر بأن يبني على القبر صندوقاً، ففعل..
ولكن مطاردة العباسيين للعلويين وشيعتهم أوجبت أن يهجر القبر من جديد، فلا يزوره زائر إلا خلسة.
ثم جاء ابو جعفر المنصور، وحاول أن ينبش القبر، فأمر غلامه بذلك، فبدأ بالحفر حتى ظهر له القبر، ثم أمر بطمه، وصرفه الله عنه..
وبعد ذلك وفي زمن الرشيد عاد القبر إلى الظهور من جديد في قصة معروفة جرت للرشيد وهو يتصيد حول القبر حيث رأى الظباء تحتمي بالأكمة التي فيها القبر، فلا تقتحم كلاب الصيد وطيور الباز إليها، الأمر الذي أثار عجبه فسأل أحد شيوخ الكوفة عن ذلك، فأخبره أنها تلوذ بقبر علي(ع)... فكان أن أقام أول عمارة على القبر، وهو بناء مربع الشكل مبني بحجارة بيضاء فوقه قبة من الطين الأحمر فوقها جرة خضراء.
وبعد ذلك جاء المتوكل العباسي، فخرب عمارة النجف كما خرب عمارة الحسين. ثم قام بالعمارة الثالثة عمر بن يحيى القائد بالكوفة المقتول سنة 250ﻫ.
وكانت العمارة الرابعة على يد محمد بن زيد الداعي المقتول سنة 287ﻫ والذي ولي إمرة طبرستان بعد أخيه الحسن بن زيد، فإنه بنى على القبر الشريف قبة وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقاً، والظاهر أن هذه العمارة هي التي أعقبت خراب المتوكل لبناء القبر كما يظهر من تاريخ طبرستان (الفارسي) ج1 ص95.
ثم كانت العمارة الخامسة على يد أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان المقتول سنة 317ﻫ، وسترها بفاخر الستور، وفرشها بثمين الحصر.
وبعد ذلك كانت العمارة السادسة، وهي أجلّ العمارات وأحسنها على يد عضد الدولة المتوفي سنة 372ﻫ. أو 373ﻫ وقد بذل عليها الأموال الجزيلة، وجلب إليها الزارة، والنجارة والعملة من سائر الأقطار.
وقد شاهد هذه العمارة الرحالة ابن بطوطة ووصفها حين وروده النجف سنة 727ﻫ. بأنها: "معمورة أحسن عمارة وحيطانها مزينة بالقاشاني، وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق، ونقشه أحسن، وإذا ما دخل زائر يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضة وكذلك العضادتان، ثم يدخل بعد ذلك إلى القبة، وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مسكوة بالخشب، عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل، مسمرة بمسامير الفضة قد غلبة على الخشب، لا يظهر منه شيء. وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدهما قبر آدم عليه السلام، والثاني قبر نوح، والثالث قبر علي، وبين القبور طشوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب، يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن بها وجهه تبركاً وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضة، وعليه ستور الحرير الملوّن، يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربع أبواب عبتها فضة، وعليها ستور الحرير الخ..".
ولكن هذه العمارة وإن كان تأسيسها يرجع إلى عضد الدولة، إلا أنه قد طرأت عليها إصلاحات كثيرة، وتحسينات ثمينة من البويهيين أنفسهم ووزرائهم ومن الحمدانيين، وبعض العباسيين المتشيعين.
فإن المستنصر العباسي قد عمرّ الضريح المقدس، وبالغ فيه، وزاره مراراً، وكذلك فقد أصلحه وحسّن فيه وفي الأبنية الملحقة به المسلمون من أسرة جنكيز خان وغيرهم..
ولكن عمارة عضد الدولة هذه قد احترقت في سنة 755، وكانت حيطانها قد سترت بخشب الساج المنقوش، فجددت عمارة المشهد سنة 760 وهذه هي العمارة السابعة للمشهد ولكن عمارة عضد الدولة لم تذهب آثارها بالكلية، بل بقيت إلى ما بعد التجديد للمشهد حيث يذكر النسّابة النجفي محمد حسين كتاب دار: إنه رأى في المشهد بقية عمارة عضد الدولة في سنة 1041ﻫ.
ثم جاء الشاه عباس الأول، فأصلح عمارة المشهد، وعمرّ الروضة والقبة والصحن الشريف بنظر الشيخ البهائي رحمه الله الذي عمل رسالة في عمارة المشهد ووضعه الهندسي..
وبعد ذلك جاءت العمارة الثامنة للمشهد الشريف على يد الشاه صفي الصفوي حفيد الشاه عباس الأول ووسع الصحن الشريف ووسع ساحة الحرم العلوي، وأتمها ولده الشاه عباس الثاني بعد وفاة أبيه سنة 1052ﻫ.


إجمال وصف المشهد الحالي:
وعمارة المشهد القائمة في هذه الأيام هي عمارة الشاه صفي وهي بديعة الشكل فخمة الصنعة.
يقع القبر الشريف تحت قبة عالية ويحيط به فسحة طول كل ضلع منها 13 متراً، ويحيط الروضة المقدسة من جوانبها الأربع رواق مسقف، ثم من الجهة الشرقية إيوان الذهب الذي تقع على جانبيه مئذنتان مذهّبتان ويحيط بهذا المبنى كله الصحن الشريف، الذي له سور عالٍ مؤلف من طابقين، فيه أربعة أبواب رئيسية، وخامس جانبي... وارتفاع سور الروضة، والرواق المحيط بها ثم السور المحيط بالصحن كله واحد لا يختلف.


وصف الروضة المقدسة:
يقع القبر الشريف وسط الروضة المقدسة المربعة الشكل يعلوه قبتان: خارجية وداخلية. والخارجية مدببة الشكل يبلغ سمك جدرانها 8 س م. وارتفاعها عن سطح الضريح 42 متراً وقطرها 16 متراً، ومحيط قاعدتها 50 متراً.. والداخلية مستديرة الشكل سمك جدرانها 60 س م وارتفاعها عن سطح الضريح 35 متراً، وقطرها 12 متراً..
وتقوم القبة على رقبة طويلة علوها 12 متراً فتح بها 12 شباكاً للتهوية والإضاءة. وقد زخرفت القبة الداخلية والخارجية بزخارف تعتبر آية من آيات الفن الإسلامي، فالمقرنص الكبير الذي يحمل رقبة القبة كسي بالمرايا المصنوعة على شكل بديع، وبالقاشاني والكتابات الجميلة، والنقوش الرائعة... وكذلك القبة نفسها من الداخل..
أما القبة الخارجية فقد كانت مغشاة بالبلاط القاشاني – وكذلك المئذنتان والإيوان وسائر الصحن الشريف – إلى أن جاء السلطان نادر شاه لزيارة النجف، فأمر بقلع القاشاني عن القبة والإيوان والمئذنتين واستبدلا بصفائح الذهب، وصرف على ذلك مبالغ جسيمة، وذلك سنة 1156ﻫ.
وفي وسط القبة يوجد القبر الشريف، وقد وضع عليه صندوق من خشب الساج الهندي المطعّم بالصدف، والعاج والأبنوس وأنواع أخرى من الأخشاب المتعددة الألوان، فجاء تحفة رائعة، وقد حفر على الصندوق الكثير من الكتابات العربية المتعددة الطرز، وتاريخ صناعة هذا الصندوق هو 1202ﻫ. ووضع فوق الصندوق مقصورة من الحديد. ثم فوق هذه المقصورة مقصورة أخرى من الفضة الخالصة يبدو أنها صنعت ووضعت في عهد الصفويين، وجددت عدة مرات.. ثم استبدلت أخيراً أي في سنة 1361ﻫ. بمقصورة أخرى تحوي: عشرة آلاف وخمسمائة مثقال من الذهب، ومليوني مثقال من الفضة.. وتعتبر آية من آيات فن صناعة الذهب والفضة، وكذا الترصيع بالميناء المتعددة الألوان.
أما جدران المربع التي تقوم عليها القبة، فيبلغ ارتفاعها 17 متراً، قد غشيت كلها بأنواع متعددة من الزخارف النفيسة، والألوان البديعة، والكتابات الرائعة كما وفرشت أرض الروضة المقدسة وكذلك الجدران إلى ثلاثة أذرع ونصف بالمرمر، فوقها على الجدران شريط من القاشاني المزين بالنقوش والآيات، فوق هذا الشريط حتى رقبة القبة طبقة من الفسيفساء تتكون من أحجار كريمة، كالياقوت والزمرد، وألماس، واللؤلؤ النادر، ثم يأتي بعد ذلك التزيين بالمرايا على شكل بديع جميل...


أبواب الروضة المطهرة:
وللروضة المطهرة ستة أبواب تؤدي إلى الرواق المسقف المحيط بها..
إثنان من جهة الغرب لا ينفذان إلى الرواق لأن خلفهما شباك من الفضة وإثنان من جهة الشرق يؤديان إلى الرواق في مقابل باب الإيوان الذهبي، واثنان خلف الإمام من جهة الشمال يؤديان إلى الرواق أيضاً. وأما البابان اللذان في مواجهة باب الإيوان الذهبي فالذي يكون على يمين الداخل نصب سنة 1283ﻫ. والذي على يسار الداخل نصب سنة 1287ﻫ. والأول كان قد أهداه لطف علي خان الإيرواني، والثاني أهداه ناصر الدين شاه القاجاري، وكلاهما كانا من الفضة، ولكنهما معاً قلعا في سنة 1376ﻫ، واستبدلا ببابين ذهبيين جميلي الصنعة بذل نفقتهما الحاج محمد تقي الاتفاق الطهراني والبابان اللذان من جهة الشمال خلف الضريح ويؤديان إلى الرواق فهما من الفضة الخالصة وكانا في الأصل باباً واحداً لكنه قلع في سنة 1366ﻫ. وجعل مكانه البابان اللذان كانا إلى جهة الغرب عند رأس الإمام عليه السلام. ومن هذه الأربعة فقط يكون الدخول والخروج من الرواق إلى الروضة المطهرة..


الرواق المحيط بالروضة المقدسة:
ويحيط بمبنى القبة (الروضة) من جميع الجهات رواق مفروشة أرضه وقسم من جدرانه متصل بجدار الروضة نفسها بسقف مزيّن بالمرايا الملونة، ذات الأشكال الهندسية المختلفة البديعة وأرضه والقسم الأسفل من جدرانه مفروش بالمرمر ويساوي ارتفاع جداره ارتفاع جدار الروضة وجدار الصحن الخارجي ويبلغ طول ساحته من الشرق إلى الغرب 30 متراً ومن الشمال إلى الجنوب 31 متراً..
وله ثلاث أبواب: بابان متقابلان أحدهما من جهة الشمال مقابل لباب الصحن المعروف بباب الطوسي، والثاني من جهة الجنوب، مقابل لباب القبلة، وهذا قد نصب فيه باب فضي ثمين محلى بالذهب وقد نصب سنة 1341ﻫ، وقد بذلت نفقته والدة الحاج عبد الواحد زعيم آل فتلة، وهو المعروف بباب المراد.
والباب الثالث: وهو والذي في الإيوان الذهبي ويدخل الداخل منه إلى الرواق وهو من الأبواب الثمينة المتقنة نصب سنة 1373ﻫ. وهو مرصّع بالأحجار الكريمة ومطعّم بالميناء وهو لوحة فنية رائعة كتبت عليه الآيات القرآنية، والأشعار اللطيفة.
وفتح في سنة 1373ﻫ باب جديد ينفذ إلى الرواق، ويمر على مرقد العلامة الحلي، الذي برز للرائح والغادي حين فتح هذا الباب..
وجدران مبنى الروضة والإيوان الخارجية مزينة بالقاشاني يرجع معظمها إلى العصر العثماني ويحيط بالجدران من أعلا شريط من الكتابة بخط الثلث الجميل...


 الإيوان الذهبي الكبير:
ومن جهة الشرق يقع الإيوان الذهبي الكبير، وسقفه وجدرانه مكسوة بالذهب الأبريز الخالص وفي ركنيه المئذنتان الذهبيتان، وكتب في وسطه على جانبي الباب قصيدة فارسية بحروف ذهبية بارزة وفي أعلاه كلمات عربية، وحروفها ذهبية بارزة، وفيها تاريخ تذهيب القبة والمئذنتين والإيوان بأمر السلطان نادر شاه، وقد دفن في هذا الإيوان كثير من العلماء والأعيان، وفي غرفة تقع على يمين الداخل إلى الرواق يوجد قبر العلامة الحلي، وفي أخرى على يسار الداخل يقع قبر المقدس الأردبيلي، وهذه الغرفة اليوم مخزن لبعض النفائس الثمينة..
أمام هذا الإيوان رحبة كبيرة ترتفع عن أرض الصحن قدر متر، ويبلغ طولها 33 متراً، وعرضها 20 متراً..


 الـمـآذن:
تقع المئذنتان في ركني الإيوان، في الجهة الشرقية من الروضة الشريفة، ومحيط كل منها 8 ثمانية أمتار وارتفاع كل واحدة منها 35 متراً، وقطرها متران ونصف، ويقال: إن على كل واحدة منهما أربعة آلاف صفحة من الذهب الخالص. وعلى ارتفاع 25 متراً يحيط بالمئذنتين شريط عرضه متر من الكتابة العربية فيه الآيات من سورة الجمعة ويعلو الكتابة صفان من المقرنصات ترتكز عليهما شرفة المؤذن التي قطرها متر ونصف وارتفاعها ثلاثة أمتار، فوقها اسطوانة ضيقة يبلغ قطرها متراً ونصفاً وارتفاعها ستة أمتار، ويتوج الاسطوانة طاقية مصفقة يعلوها الهلال.
ونادر شاه هو الذي أمر بإزالة القاشاني الذي عليهما وعلى القبة والإيوان واستبداله بصفائح الذهب وذلك في سنة 1156 وهدمت المئذنة الجنوبية في سنة 1281ﻫ، حتى أساسها، ونزعت الصفائح الذهبية عنها، لهدف إصلاحها، ثم أعيد بناؤها على طرزها الأول.. وفي سنة 1352 قلع الذهب عنها أجمع وهدم أعلاها ثم أعيد كل ذلك كما كان وأصلحت المئذنة الشمالية المجاورة لمرقد العلامة الحلي في سنة 1315ﻫ. فنزع ما عليها من الذهب، وهدمت إلى نصفها ثم أعيد بناؤها على طرازها السابق كذلك.. وفي سنة 1367 قلع الذهب عنها أجمع، وهدم أعلاها ثم أعيد بناؤه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة