مقالات

أبعاد قضية "الغدير"


أ ــ مسألة الحكومة في الإسلام من صميم الدين
النقطة الأولى، هي حادثة الغدير ذاتها. شهد العالم الإسلامي في زمن الرسول الأكرم وكان قد اتسع نسبياً، أمراً على جانب كبير جداً من الأهمية، ألا وهو إعلان خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ليس الشيعة فقط هم من رووا حادثة الغدير، فكثيراً ما روى محدثو أهل السنة وكبار أهل السنة أيضاً هذا الحدث، بيد أن فهمهم للمسألة كان مختلفاً في بعض الأحيان. لكن أساس هذه الحادثة يعدّ من المسلمات بين المسلمين. وقع هذا الحدث وهو تعيين خليفة للرسول في الأشهر الأخيرة من عمره أي قبل نحو سبعين يوماً من وفاته. والحقيقة أن هذا الحدث يدل على أهمية قضية الحكومة والسياسة وولاية أمر الأمة الإسلامية من وجهة نظر الإسلام. حينما يشدد إمامنا الجليل والكثير من كبار الفقهاء قبله على قضية الوحدة بين الدين والسياسة وأهمية قضية الحكم في الدين، فلهذا جذوره في تعاليم الإسلام ومن ذلك درس الغدير الكبير. هذا دليل على أهمية الموضوع. كل الذين يفهمون هذا المعنى من حادثة غدير خم - أي نحن الشيعة وحتى كثير من غير الشيعة ممن شعروا أو فهموا هذا المعنى من حادثة الغدير - عليهم التنبّه في جميع عصور التاريخ الإسلامي إلى أن مسألة الحكومة مسألة أساسية ومهمة وفي المرتبة الأولى في الإسلام. لا يمكن عدم الاكتراث لقضية الحكومة والسيادة. ودور الحكومات في هداية الناس أو تضليلهم قضية تدل عليها التجربة البشرية....

ب ــ أمير المؤمنين علي (ع) هو النموذج للحاكم الإسلامي
النقطة الأخرى إلى جانب هذه القضية هي أن رسول الإسلام عيّن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في واقعة الغدير. فما هي الخصائص التي عرف بها عليّ في تلك الفترة من حياته وفي الفترات اللاحقة؟ هذه الخصائص هي المعيار بالنسبة لنا؟ أولى خصائص الإمام أمير المؤمنين هي حبه والتزامه برضا الله والسير على الصراط المستقيم مهما كانت الصعاب ومهما تطلب ذلك من جهد وجهاد. هذه هي أبرز سمات الإمام أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين إنسان لم يتراجع للحظة واحدة وفي أية قضية حتى خطوة واحدة في سبيل الله ومن أجله منذ أوان طفولته وحتى لحظة استشهاده. ولم يعتره التردد والشك، ونذر كل كيانه في سبيل الله وقدمه إلى الميدان. بلّغ ودعا يوم كان عليه أن يبلغ ويدعو، ويوم كان عليه أن يضرب بالسيف، ضرب بالسيف بين يدي الرسول ولم يهب الموت. وصبر يوم كان عليه أن يصبر. ويوم كان عليه أن يمسك بزمام السياسة أمسك بزمام السياسة وخاض غمار الساحة السياسية. وأبدى في كل هذه العهود والفترات كل ما تقتضيه التضحية. مثل هذا الشخص يضعه الرسول الأكرم على رأس المجتمع الإسلامي.. وكان هذا درساً.. هذا درس للأمة الإسلامية، وليس مجرد ذاكرة تاريخية وذكرى تعود للقرون الماضية. في هذا دلالة على أن المعايير والملاكات لإدارة المجتمع الإسلامي والمجتمعات الإسلامية والأمة الإسلامية هي هذه: العبودية لله، والجهاد في سبيل رضا الله، وتقديم الروح والمال فداءً لذلك، وعدم التهرب من أية مصاعب أو مشاكل، والإعراض عن الدنيا. هذه القمة هي أمير المؤمنين. المؤشر والمعيار هو أمير المؤمنين. هذا هو درس الغدير الكبير.
لننظر للعالم الإسلامي والحكومات الإسلامية، وعلى مستوى العالم والإدارات السياسية في العالم ونرى كم هو البون بين ما عرضه الإسلام على الإنسانية وبين ما هو قائم اليوم على أرض الواقع. الخسائر التي تتحملها الإنسانية يعود شطر كبير منها إلى هذه المسألة. يرى الإسلام أن سعادة الإنسانية تستدعي إدارة من نوع إدارة أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين في هذا المجال تلميذ الرسول وتابعه. الإمام علي نفسه حينما جرى الحديث عن زهده قال أين زهدي من زهد الرسول؟ الإمام أمير المؤمنين تلميذ رسول الله المميّز الكبير في الجهاد، وفي الصبر، وفي كل هذه الأمور. مثل هذا الشخص هو الجدير، وعلينا جميعاً اعتباره نموذجاً وقدوة، لا لبلادنا وحسب، بل للعالم الإسلامي برمته.
مثل هذا الإنسان المتسامي الكبير غير الآبه للدنيا ولأموالها وبهارجها، والمستعد للتضحية في سبيل الحق والحقيقة هو القادر على إنقاذ المجتمعات البشرية الكبرى.. شخص لا يستسلم للنـزوات النفسانية ولا تجعله المصالح الشخصية التافهة ينهزم أمام أحداث الحياة الكبرى....

لاحظوا مستوى حياة البشرية في العالم راهناً.. رؤساء البلدان، ومدراء شؤون السياسة بين الشعوب، أيهم على استعداد لغض الطرف عن مصالحه الشخصية حين تكون هذه المصالح متاحةً لهم وبوسعهم تأمينها؟ أيهم على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل مصلحة شعوبهم وبلدانهم؟ أيهم على استعداد لسحق الاعتبارات والملاحظات؟ الفقر الكبير الذي تعاني منه البشرية اليوم هو في جانب منه؛ هذا الفقر لمثل هؤلاء الرجال الذي عرض الإسلام على الإنسانية نموذجهم السامي. طبعاً من الواضح أن الوصول إلى تلك القمة ليس في مقدور أبناء البشر العاديين. ليس بوسع أحد الحياة والسلوك مثل الإمام أمير المؤمنين.. هذا طموح لا يتحقق. بيد أن القمة تكشف لنا عن الاتجاه. ينبغي السير نحو تلك القمة والتشبه بها والاقتراب منها. هذه هي النقيصة والثغرة الكبرى التي تعاني منها البشرية. إنها نقطة موجودة ومتوفرة في حادثة الغدير. هذه أيضاً قضية ينبغي التنبه لها؛ رسالة الغدير للعالم رسالة نموذج الحكومة الإسلامية.
إنسان شديد وقاطع للغاية مع العدو ومع الحالات الانتهازية في سبيل الله، لكنه متواضع وترابي وصبور مع المظلومين والضعفاء إلى درجة لا يصدق معها أحد أنه أمير المؤمنين. في بداية دخول أمير المؤمنين للكوفة حيث لم يكن الناس يعرفونه، كان سلوكه، وثيابه، وأسلوبه بحيث لا يعلم أحد حينما يمشي الإمام في الأزقة والأسواق أن أمير المؤمنين بكل تلك العظمة هو هذا الشخص الذي يمشي بنحو جد طبيعي وعادي. متواضع صبور ترابي لهذه الدرجة مع الناس الضعفاء والعاديين، وحاسم صامد كالجبل أمام الأعداء الغادرين العتاة.. هذه قدوة.

كلمة الإمام الخامنئي بمناسبة عيد الغدير السعيد 17/12/2008

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة