قرآنيات

الغدير في القرآن الكريم (3)


* ( القول الفصل ) *
هذا ما وسعنا من الحيطة بأحاديث الباب وأقواله في نزول الآية الكريمة حول قصّة الغدير، وذكر المتوسّعون في النقل وجوهاً أخر لنزولها، وأوّل من عرفناه ممّن ذكرها الطبريّ في تفسيره، ثمّ تبعه من تأخّر عنه وأنهاها الفخر الرازي إلى تسعة أوجه وعاشرها ما ذكرناه سالفاً.
أمّا ما ذكره الطبري، فعن ابن عبّاس: يعني إن كتمت آية ممّا أنزل عليك من ربّك لم تبلّغ رسالتي. وهو غير مناف لنزولها في قصة الغدير، سواء أخذنا لفظة آية في قوله نكرة محضة، أو نكرة مخصّصة، فعلى الثاني يراد بها ما نحاول إثباته بمعونة ما ذكرناه من الأحاديث والنقول. وعلى الأوّل فهو تأكيد لإنجاز ما أمر بتبليغه بلفظ مطلق ويكون حديث الغدير أحد المصاديق المؤكّدة.
وعن قتادة: أنّه سيكفيه الناس ويعصمه منهم وأمره بالبلاغ. وهو أيضاً غير مضادّ لما نقوله، إذ ليس فيه غير أنّ الله سبحانه ضمن له العصمة والكفاية في تبليغ أمر كان يحاذر فيه اختلاف أمّته ومناكرتهم له، ولا يمتنع أن يكون ذلك الأمر هو نصّ الغدير، ويتعيّن ذلك بنصّ هذه الأحاديث.
وعن سعيد بن جبير، وعبد الله بن شقيق، ومحمّد بن كعب القرظي، وعائشة واللفظ لها: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: والله يعصمك من الناس. قالت: فأخرج النبيّ رأسه من القبّة فقال: أيها الناس، انصرفوا فإنّ الله قد عصمني. وليس فيه إلاّ أنّه صلّى الله عليه وآله فرّق الحرس عنه بعد نزول الوعد بالعصمة من غير أيّ تعرض للأمر الذي كان يخشى لأجله بادرة الناس في هذه القصّة أو مطلقاً، وليس من الممتنع أن يكون ذلك مسألة يوم الغدير، ويعينه الروايات المذكورة في غير واحد من الكتب.
وذكر الطبري أيضاً في سبب نزول الآية عن القرظي: إنّه كان النبيّ إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة يقيل تحتها فأتاه أعرابيّ فاخترط بسيفه ثمّ قال: من يمنعك منّي؟ قال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منها. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله: والله يعصمك من الناس.
وهو يناقض لمّا تقدّم من أنّه صلّى الله عليه وآله كان يحتفّ به الحرس إلى نزول الآية، فمن المستبعد جداً وصول الأعرابي إليه وهو نائم، والسيف معلّق عنده، والحرس حول قبّة النبيّ. على أنّ لازم هذا: التفريق في نزول الآية، فإنّه ينصّ على أنّ النازل بعد قصة الأعرابي هو قوله تعالى: ﴿.. والله يعصمك من الناس﴾. ولا مسانخة بين هذه القصّة وصدر الآية، ومن المستصعب البخوع لما تفرّد به القرظي في مثل هذا.
وليس من المستحيل أن يكون قصّة الأعرابي من ولايد الاتفاق حول نصّ الغدير ونزول الآيةن فحسب السذج أنّها نزلت لأجلها، وفي الحقيقة لنزولها سبب عظيم هو أمر الولاية الكبرى، ولم تك هاتيك الحادثة بمهمّة تنزل لأجلها الآيات، وكم سبقت لها ضرائب وأمثال لم يحتفل بها غير أنّ المقارنة بينها وبين نصّ الولاية على تقدير صحّة الرواية أوقعت البسطاء في الوهم.
وروى الطبريّ عن ابن جريج: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يهاب قريشاً، فلمّا نزلت: ﴿.. والله يعصمك من الناس﴾، استلقى، ثمّ قال: من شاء فليخذلني، مرّتين أو ثلاثاً. وأيّ وازع من أن يكون الأمر الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهاب قريشاً لأجله هو نصّ الخلافة؟ كما فصّلته الأحاديث الآنفة فليس هو بمضادّ لما نقوله.
وروى الطبريّ بأربعة أسانيد عن عائشة: من زعم أنّ محمّداً صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: ﴿يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك ..﴾. وما كانت عائشة بقولها في صدد بيان سبب النزول، وإنّما احتجّت بالآية الكريمة على أنّه صلّى الله عليه وآله قد أغرق نزعاً بالتبليغ، ولم يدع آية من الكتاب إلاّ وبثّها، وهذا ما لا يُشكّ فيه، ونحن نقول به قبل هذه الآية وبعدها.
وأمّا ما حشده الرازي من الوجوه العشرة وجعل نصّ الغدير عاشرها، وقصّة الأعرابيّ المذكور في تفسير الطبري ثامنها، وهيبة قريش مع زيادة اليهود والنصارى تاسعها، وقد عرفت حقّ القول فيهما، فهي مراسيل مقطوعة عن الإسناد غير معلومة القائل، ولذا عزي جميعها في تفسير نظام الدين النيسابوري إلى القيل، وجعل ما روي في نصّ الولاية أوّل الوجوه، وأسنده إلى ابن عباس والبراء ابن عازب وأبي سعيد الخدري ومحمّد بن عليّ عليهما السلام.

والطبريّ الذي هو أقدم وأعرف بهذه الشؤون أهملها رأساً، وهو وإن لم يذكر حديث الولاية أيضاً، لكنّه أفرد له كتاباً أخرجه فيه بنيف وسبعين طريقاً، وذكر من عزاه إليه في هذا الكتاب، وروى هناك نزول الآية عندئذٍ بإسناده عن زيد بن أرقم، والرازي نفسه لم يعتبر منها إلاّ ما زاد على رواية الطبري في تاسع الوجوه من التهيّب من اليهود والنصارى. فهي غير صالحة للاعتماد عليها، ولا ناهضة لمجابهة الأحاديث المعتبرة السابق ذكرها التي رواها من قدّمنا ذكرهم من أعاظم العلماء كالطبريّ، وابن أبي حاتم، و ابن مردويه، وابن عساكر، وأبي نعيم، وأبي إسحاق الثعلبي، والواحدي، والسجستاني والحسكاني، والنطنزي، والرسعني وغيرهم بأسانيد جمّة، فما ظنّك بحديث يعتبره هؤلاء الأئمة؟
على أنّ اللائحة على غير واحد من الوجوه لوائح الافتعال السائد عليها عدم التلائم بين سياق الآية وسبب النزول، فلا يعدو جميعها أن يكون تفسيراً بالرأي، أو استحساناً من غير حجّة، أو تكثيراً للغد أمام حديث الولاية، فتّاً في عضده، وتخذيلاً عن تصديقه، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره.
قال الرازيّ بعد عدّ الوجوه: اعلم أنّ هذه الروايات وإن كثرت إلاّ أنّ الأوْلى حمله على أنّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها.
وأنت ترى أنّ ترجيحه لهذا الوجه مجرّد استنباط منه بملائمة سياق الآيات من غير استناد إلى أيّة رواية، ونحن إذا علمنا أنّ ترتيب الآيات في الذكر غير ترتيبها في النزول نوعاً فلا يهمّنا مراعاة السياق تجاه النقل الصحيح، وتزيد إخباتاً إلى ذلك بملاحظة ترتيب نزول السور المخالف لترتيبها في القرآن، والآيات المكّيّة في السور المدنيّة وبالعكس، قال السيوطي: فصل: الإجماع والنصوص المترادفة على أنّ ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، أمّا الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلّى الله عليه وسلّم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. ثمّ ذكر نصوصاً على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يلقّن أصحابه ويعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبرائيل إيّاه على ذلك، وإعلامه عند نزول كلّ آية: إنّ هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا.
على أنّ طبع الحال يستدعي أن يكون تهيّبه صلّى الله عليه وآله من اليهود والنصارى في أوليات البعثة، وعلى فرض التنازل بعد الهجرة بيسير لا في أخريات أيّامه التي كان يهدّد فيها دول العالم، وتهابه الأمم، وقد فتح خيبر واستأصل شافة بني قريضة والنضير، وعنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب طوعاً وكرهاً، وفيها كانت حجّة الوداع التي نزلت فيها الآية كما عرفت ذلك من الأحاديث السابقة، ويعلمنا القرطبي بالإجماع على أنّ سورة المائدة مدنيّة. ثمّ نقل عن النقاش نزولها في عام الحديبيّة (سنة 6هـ) فأتبعه بالنقل عن ابن العربي بأنّ هذا حديث موضوع لا يحلّ لمسلم اعتقاده. إلى أن قال: ومن هذه السورة ما نزل في حجّة الوداع ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى: ﴿لا يجرمنّكم شنآن قوم ..﴾. وكلّ ما نزل بعد هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو مدنيّ، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار، إنّما يرسم بالمكيّ ما نزل قبل الهجرة.

وقال الخازن: سورة المائدة نزلت بالمدينة إلاّ قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم ..﴾، فإنّها نزلت بعرفة في حجّة الوداع. وأخرجا -أي القرطبيّ والخازن- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله في حجّة الوداع: إنّ سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً.
وقال السيوطيّ عن محمّد بن كعب من طريق أبي عبيد: أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع فيما بين مكّة والمدينة. وعن ابن الضريس عن محمّد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازيّ عن عمرو بن هارون عن عثمان بن عطا الخراساني عن أبيه عن ابن عباس: إن أول ما أنزل من القرآن: إقرأ باسم ربك ثم ن ثم يا أيها المزمل - إلى أن عدّ - الفتح ثمّ المائدة ثم البراءة فجعل البراءة آخر سورة نزلت المائدة قبلها. وروى ابن كثير عن عبد الله بن عمر: إن آخر سورة أنزلت: سورة المائدة والفتح -يعني سورة النصر- ونقل من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عائشة أنّ المائدة آخر سورة نزلت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد