مقالات

عاشوراء ووجدان الفنان


الشيخ حسين المصطفى ..

في ظل الصراع الفكري الذي يشهده العالم الآن فيما يسمى بعصر العولمة، فإنّ الفن يمثل أخطر سلاح اختراقي في وعي المتلقي. فحضارة الصورة بشكل عام، هي لغة ذات نظام اتصال ولكنها ذات قدرة تعبيرية كبيرة؛ لأنها تستعين وتستفيد من كل الفنون السابقة التي ابتدعتها البشرية، ما يجعلها ذات قدرات تعبيرية تفوق إمكانية اللغة.
فاللغة لم تعد وسيلة الوعي والتطور الأساسي للتراكم المعرفي؛ لأنّ حضارة الصورة استطاعت السيطرة على الزمن، وهي أهم إنجاز عرفته البشرية مع تطور العلوم.
وللأسف أنّ الفن الإسلامي لم يتبوأ مكانه في خريطة الفن المعاصر؛ وذلك بسبب إشكالية حالة الاشتباك الفقهي في العلاقة بين الدين والفن، حول الحلال والحرام في قضايا الفن.
مع وقوفنا على حقيقة ساطعة وهي: أنّ ما يستطيع الفن تحقيقه (كالفيلم أو المسلسل التليفزيوني) يفوق الأثر الذي تستطيع تحقيقه العديد من الكتب والندوات والخطب.
وما زالت تلك الفنون المتنوعة التي ابتدعها المسلم طيلة قرون عديدة شاهدةً على دين طالما وجه الحس البشري للجمال في كل شيء، وسعى لتحريك الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوباً حيّاً مع الأشياء، والأحياء.
إنّ كل متأمل في الفن الإسلامي يعرف أنه أرسى معايير ذات صبغة مميزة، كان لها آثارها الواضحة على العالم الغربي، خاصة فيما بين القرن العاشر الميلادي والقرن الرابع عشر، مما يوضح أنّ الفن الإسلامي يتوسل بالمادة ليعبر عن الإحساس الديني بالحياة، وعن وجدان أخلاقي إسلامي.
وهذا ما يجسده أهمية عاشوراء وتجسيده فنياً؛ لأنّ النهضة الحسينية محطةٌ أساسية في الوعي الإسلامي الشيعي، ومولّدة للدلالات والرموز، وأظن أنّ قدرات الفن عامة، والسينما خاصة، تستطيع أن تعيد إبراز هذه الحادثة وتسليط الضوء عليها بكل أبعادها الإنسانية والفكرية، بما تملكه من قدرات تقنية تعبيرية هائلة. وليس بمستغرب أن يكون لعاشوراء كلَّ هذا التجلي في رؤيته الفنية؛ لأنه حدث تجاوز حدود الزمان والمكان والانتماء واللغة، فكان لعاشوراء ذلك الاندماج الكبير كأثر يحاكي لغة العالم في تشابكه الدرامي والنصي، فتتجاوز به عوائق اللغة، وتنفذ عبر العين (الباصرة) الى القلب (البصيرة)؛ لأنها تجسد فضاءً مفتوحاً، لتوصل الهدف الحقيقي من رسالة الإمام الحسين (ع)، وهي رسالة الإصلاح؛ إنه صوت آت من عمق التاريخ يعلمنا كيف نردد صداه بعد أربعة عشر قرناً، لنكون صوتاً للحق والعدالة.
فالفن ليس بقعة ضوء جميلة فقط، إنما هو وسيلة بصرية للتأريخ والتدوين وتوثيقهما.. فالجداريات (العاشورائية) تختصر فيها حكاية كلِّ منطقة، إنها فرشاة تتفاعل مع حركة الإنسان ووجدانه في هذا الحدث السنوي، فترسخ في ذاكرة الأجيال اللاحقة ووجدانهم فلسفة الحدث من خلال رؤية فنية عميقة لأنها القادرة على تقديم التاريخ بواقعية ملهمة.
ونحن نشهد أنّ الفن المعاصر يتجه إلى ما هو خارج النطاق التشكيلي (اللوحة، المنحوتة)، وصولاً إلى انتشار فن الوقائع، والفن المفهومي، والذي يعتمد على الفكرة وأهمية إيصالها إلى الجمهور، معتمداً بذلك على عناصر مرئية مختلفة.. كعرض المعاناة الإنسانية القاسية التي تعرض لها أهل البيت في كربلاء، وانتهاك أبسط الحقوق الإنسانية لهم واستشهادهم على يد الطاغوت، وارتباط هذه الواقعة بما يصيب المسلمين من محن وآلام ضحية الطاغوت السياسي.
لقد وهب الله تبارك وتعالى الإنسان نِعَم الحواس الخمس: (السمع، والبصر، والذوق، والشم، واللمس)، وامتّن عليه بها، وهي وسائل لإدراك الأشياء، وتمييز ما ينفعه منها وما يضره، وعلّق بها الكثير من الشرائع والأحكام.
ونعمتا السمع والبصر أعظم تلك النعم وأشرفها، ولذلك ميزتا مع العقل على سائر النعم بالامتنان على بني الإنسان، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
من الطبيعي أنّ أي ذكرى كعاشوراء، لها علاقة بالوجدان الشعبي والديني وبالذهنية الثقافية وبالحركة السياسية، لا بد لها من أن تتطور في طريقة التعبير تبعاً لتطوّر وسائل التعبير على مدى الزمن، لأن أية فكرة لا بد لها من أن تدخل في الوجدان الإنساني بالوسائل التي يمكن أن ينفتح عليها هذا الوجدان، لأن الإنسان يتربّى بحسب الوسائل المتطورة في إنتاج قناعاته، من خلال الفكر الذي يدخل عقله.
في ضوء هذا، فإننا في الوقت الذي نؤكد بقاء مجالس العزاء في عاشوراء، لأنها تجسد حالاً تعبوية شعبية تحقق نتائج كبيرة إيجابية على مستوى إنتاج جمهور عاشوراء في كل زمان ومكان، وندعو إلى تطوير مجالس العزاء من حيث الأسلوب والأداء وما إلى ذلك، نعتقد أن المسرح العاشورائي الذي بدأ في أكثر من موقع، إنما بدأ بطريقة بدائية قد تعطي شكل الحادثة، لكنها لا تملك عمقها وآفاقها وحيويتها وحركيتها ومفاهيمها، ما يجعل الإنسان الذي يشاهد هذا المسرح البدائي يتابع الأحداث بطريقة جامدة، وإذا تفاعلت، فإنها تتفاعل بألوان المأساة فحسب.

لذلك، نحن نريد لعاشوراء أن تدخل العصر، وأن تنفتح على الإنسان المعاصر من موقع تجسيدها القيم التي انطلقت منها، وتعميقها للمأساة التي تحركت فيها، وإطلالتها على الأجواء التي تنتجها. ومن الطبيعي أننا نحتاج للوصول إلى هذه النتائج التي تمنح عاشوراء بعداً عالمياً إنسانياً، إلى جانب بعدها الشيعي أو الإسلامي، إلى قدرات فنية إبداعية في المسرح، من حيث كتابة المسرحية، ومن حيث إخراجها، ومن حيث الأشخاص.
لا أتصوَّر أن الفقهاء الواعين الذين ينفتحون على العصر، من حيث حركيته التي لا بد للإنسان المعاصر من أن يثيرها وسيلةً من وسائل إنتاج الإسلام فكراً وشريعةً وحركةً في واقع الإنسان المعاصر، لا أعتقد أن فقيهاً يعارض ذلك إذا كانت الوسائل التعبيرية متناسبةً والأجواء الإسلامية.
فالمعراج الحقيقي قد يختلف من فرد لآخر.. فهل هو الصلاة؟ أو الصوم؟ أو هو الشعائر بكل طقوسها المتفرعة؟ ... من يعيش حالة الظمأ فإنه يدرك أنَّ المعراج الحقيقي هو الحب.
ما العلاقة والارتباط التي تربط الرسام باللوحة الصامتة؟!
إنها تنبض بالحياة والحب من خلال ريشته وألوانه وإحساسه..
إنَّ معاناة الرسام، ومعاناة كلِّ فنان، هو كمعاناة العاشق المحب..
فإذا كان قدر السيف أن يكون جهاداً، فإنَّ قدر الفن هو أعلى أوسمة الجهاد؛ فالفنُ صلاة .. يدٌ ممدودة في الظلام، تبحثُ عن نفحة رحمة تحولها إلى يد تهب النعم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة