مقالات

الطموح في منهج الإمام الحسين (ع) -1-

 

الشيخ حسين المصطفى .. 

قد يخلط كثير منّا بين ما هو ديني وبين ما هو إنساني عام، وقد يختلط على المسلم بين تقديسه للقرآن، وبين اعتقاده أنه يغني عن كلِّ شيء من جهة أخرى، فينسب إليه أموراً ليس من مهمته.
فليس من مهمة القرآن، أن يرفع الهوان عن قوم لا يستخدمون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم؛ إذ ليس من شأن الكتاب الهداية القسرية، إلا أنّ بعض البشر، يزيدهم هذا الكتاب ضلالاً ولا يزيدهم هدىً .. قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}البقرة: ٢٦، ويقول الله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}فاطر: ١٨، {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}يس: ١١. {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}يس: ٧٠.
وهذه حقيقة علينا أن نفهمها جيداً، وهذا لا ينقص من قدر القرآن الكريم.. وعلينا أن نكرر هذا، حتى لا يُفرض على الكتاب ما ليس من شأنه. ولهذا نجد كثيراً ممن يخلطون، يظنون أنّ القرآن لم يقم بمهمته. ويقعون في هذا الخلط من دون شعور منهم. فهذا الغموض، وهذه الفرضيات التي فرضناها، توهمنا أنّ الكتاب، لم يؤد المهمة التي ظننا أنه ينبغي أن يقوم بها. وهذه منطقة زلقة يقع فيها الكثير من الالتباس.
فالمسلم هو الذي يكمن فيه الداء، حيث فقد الاستفادة من الكتاب؛ وذلك لفقدانه العلم والتجربة الحقيقية، لا لأنّ الكتاب لم يعد فيه ما ينفع. فلا يجوز أن نحمِّل الكتاب ما ليس من شأنه.


الطموح والسعي:
من المفردات التي قد تأخذ جانباً سيئاً في أذهان كثير من المتدينين مفردة (الطموح).. في قاموس "مقاييس اللغة" يقول ابن فارس: "الطاء والميم والحاء أصل صحيح يدلُّ على علوٍّ في شيء. يقال طَمَحَ ببصرهِ إلى الشيء أي علا. وكلُّ مرتفعٍ طامح".
من هنا نرى أنَّ الطموح هو السعي للارتفاع أو التقدم للأمام عما عليه الشخص بالفعل، وهو عبارة عن عدة صفات وهي: الإصرار، والعزيمة، وعدم اليأس، والصبر، ودقة تحديد الهدف، والتخطيط.
فالطموح هو امتلاك الحافزِ لبلوغ القوَّة، سواء كانت قوة نفسية أم مادية أم سلطوية أم عاطفية أم اجتماعية.
بل الأنبياء الكرام (ع) بكل ما لديهم من تسديد رباني يحتاجون إلى هذه القوة في نفوسهم. فالطموح والمبادرة هي صفة الأنبياء، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}ص: 45. وعن مولانا الحسين (ع)، قال رسول الله (ص): "إِنَّ اللهَ تَعَالَى: يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُوِر وَأَشرَافَهَا، وَيَكَرهُ سَفْسَافَهَا" (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: ج ١ ص ٣٤٨ حديث ١٨٩٠).. فالهمّة العالية تعني أن يحمل الإنسان بين جنبيه إرادةً قويةً وباعثاً محرِّكاً لإنجاز الأعمال، متحدّياً كافة العقبات والعراقيل، رافضاً للاستسلام والخنوع. فالهمة العالية لا تعرف التسويف، ولا تقبل بالأعذار، ولا تُلقي باللوم هنا وهناك، ولا تتنصل عن عمل مهم، ولا تعرف لنفسها حدوداً؛ بل هي كما يقول الإمام الباقر (ع): "ولتكن همّتك لما بعد الموت".
ولهذا جاء على لسان يوسف النبي (ع)، حينما قال للملك: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}يوسف: ٥٥ .. فعلى ضوء هذا فالمؤمن ليس سلبياً، وليس انطوائياً، وليس منهزماً، ولا يهرب من موقع مسؤليته، وخاصة في كلِّ عمل فيه نفع لمجتمعه، وأُطْلِقَت فيه يده فينبغي أن يقبل به ولا ينزوي، كما هو الحال مع النبي الكريم يوسف (ع) ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}يوسف: ٥٦. أما إذا كانت يده مطوَّقة، وكان أداةً فقط، من دون نفع، فينبغي أن لا يقبلها.


الطموح عند الإمام الحسين:
لقد رفض الإمام الحسين (ع) الاستسلام بالبيعة ليزيد بن معاوية، وقد فسَّر رفضه في رسالة صريحة إلى رؤساء وأشراف البصرة: "أما بعد، فإنّ الله اصطفى محمداً (ص) على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا، وأصلحوا، وتحروا الحق، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإنّ السنة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي، وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله"(تاريخ الطبري: ج 4 ص 159).
وبنفس الصراحة والقوّة يرفض البيعة ليزيد بن معاوية، ويقول موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد: "إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله"(الفتوح: ج 5 ص 14، ومقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 184).
لقد عزم الإمام الحسين (ع) على رفض الصلح بكل مستوياته؛ لأنّ المرحلة التي كان يتحرك فيها، لا تستجيب لأية مصلحة إسلامية في الصلح، خلافاً للمرحلة السابقة التي عاشها مع أخيه الإمام الحسن (ع) في حربه مع معاوية، وهذا مما يجعل من مسألة النتائج الخطرة أمراً طبيعياً جداً.
وهذا ما نقرأه في خطابه الذي بدأ به مسيرته: "أيها الناس إن رسول الله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً بعهده مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء القوم قد تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأنا أحق من غيّر"(تاريخ الطبري: ج 3 ص 307).. إذن الإمام الحسين (ع) لم ينطلق في حركته من خصوصيات خفية لا يعرفها المسلمون معه؛ لأنّ القضية هي قضية الإسلام، ولذلك فإنّ (ع) ينطلق من قضايا الإسلام وعناوينه التي يشعر المسلمون معه أنهم معنيّون، ومسئولون عنها، لا من خلال الطاعة العمياء للإمام الذي تجب عليهم طاعته.


الإمام الحسين بين الطموح والطمع:
لم يتحرك (ع) من أجل طمع الملك، كما قد يشير إليه بعض المتوهمين، وإن صدر منه (ع) التصريح بمن هو أحق بالخلافة في أكثر من موطن:
ـــ قوله (ع) لوالي المدينة، حينما رفض بيعة يزيد بن معاوية: "... ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة"(الكامل في التاريخ: ج ٣ ص ٢٤٦).
ـــ ما نقرأه في خطابه الذي بدأ به مسيرته: "... وأنا أحق من غيّر"(تاريخ الطبري: ج 3 ص 307)..
ـــ ما كتبه (ع) في رسالة صريحة إلى رؤساء وأشراف البصرة: "أما بعد، فإنّ الله اصطفى محمداً (ص) على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه..."(تاريخ الطبري: ج ٤ ص ١٥٩).
لقد أبان الإمام الحسين (ع)، عن نهجه أنه كان في حالة إصلاحٍ للواقع كلِّه، وهذا يقتضي إسقاط القيادة الحالية، على أن يكون هو القيادة؛ لأنَّ الإمامة (القيادة الشرعية المعصومة) لا تجوِّز للقائد أن يستقيل؛ فالقضية ليست مربوطة به.. فلا إشكال في أنَّ الحسين (ع) كان يطلب الحكم لإقامة الحق ولهدم الباطل.
لقد رأى الإمام الحسين (ع) في المرحلة التي عاشها بعد غياب جده وأبيه وأمه وأخيه، أنه المسؤول عن كلِّ الرسالة التي حملها مَنْ قبله، وأنَّ عليه أن يعطي كلَّ شخصيته للرسالة، كما كان أبوه (ع)، عندما انطلق في جهاده، وقال لربّه وهو يدعو: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ".
وهكذا وقف الإمام الحسين (ع)، وهو يحمل الرسالة ليقول للناس: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".
وكأنه (ع) يريد أن يؤكد فينا هذه المسؤولية في كلِّ موقع يفسد فيه الواقع الإسلامي، على مستوى السلوك، أو على مستوى السياسة؛ لأنَّ مسؤوليّتنا جميعاً هي أن نصلح المجتمع، وذلك هو شعار الأنبياء فيما حدثنا الله سبحانه عن نبيه شعيب (ع) عندما قال لقومه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود: ٨٨.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة