قرآنيات

القرآن الكريم، أهمية دوره وكيفية التفاعل معه (1)


الشيخ محسن الأراكي ..

تؤكد النصوص الإسلامية في الكتاب والسنة على المركزية والمرجعية العليا للقرآن بالنسبة إلى الوجود الإسلامي في نظامه وتشريعه وسياسته وكل ما ينطوي عليه.
فالقرآن هو القاعدة التي يرتكز عليها كل البناء الإسلامي بكافّة تفاصيله وجزئياته، ولابدّ لكل حكم أو أمر أن ينتهي في منابعه ومنطلقاته إلى القرآن وليكون إسلامياً ومشروعاً من وجهة النظر الإسلامية.
قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء). (الأنعام/ 38).
وقال تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوه لعلكم ترحمون). (الأنعام/ 155).
وقال تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم هدى ورحمةً لقوم يؤمنون). (الأعراف/ 52).
وقال تعالى: (والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المحسنين). (الأعراف/ 170).
وقال تعالى: (ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون).
وقال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبين لهم الذي اختلفوا فيه). (النحل/ 64).
وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين). (النحل/ 89).
وقال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). (الإسراء/ 9).
وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً). (الكهف 1 ـ 2).
وقال تعالى: (وإنه لكتاب عزيزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
وقال تعالى: (إنه لقولٌ فصلٌ وما هو بالهزل). (الطارق/ 13، 14).


فهذه الطائفة من النصوص القرآنية المباركة نشير إلى نقاط ثلاث:
الأولى: أن القرآن يحوي على كل ما تحتاجه البشريّة على مرّ الأزمنة والعصور وأنه تبيان كل شيء وتفصيل كل شيء. وأنّه لم يفرّط فيه من شيء، فهو يتكفل لإنسان الأرض بكل ما يبلغ به غاية الهناء ويلبّي له كلّ متطلباته بأحْسن وجه.
الثانية: وجوب التطبيق الكامل الدقيق لمبادئ القرآن ودساتيره وتوجيهاته ونظمه وإن من الإلزام المحتمّ على كل مسلم أن يجري في سلوكه وحياته العملية خلْف الهدى القرآني وفي ضوء التوجيهات القرآنية، فاتباع القرآن والتمسك به من أولى الفرائض الإسلاميّة وأهمّها.
الثالثة: أن الطريق القرآني طريق لا عوج فيه ولا غموض، بل هو طريق يشعّ بأنوار الهُدى، واضح المسالك، مُعَبَّدُ الموطىء، قصير المدى، فهو الأقوم، وهو البريق الخالص عن كل باطل وزيغ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


ومن هذا ينتج لنا أن القرآن العظيم هو النّبع الذي تنبثق منه كل المفاهيم الإسلامية والتشريعات والدساتير والنظم والمبادئ والأفكار التي تشكل الهيكل العام للشريعة الإسلامية.
وقد أكد الرسول الأعظم على مصدرية القرآن ومرجعيته التي أشرنا إليها وواصل أهل البيت عليهم السلام التأكيد على ذلك ودعوة المسلمين إلى الرجوع إلى القرآن والتمسّك به.
فقد روى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ((كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة))(1).
وقال إمام المتقين علي عليه السلام: ((واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشُّ، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب ـ إلى أن يقول ـ فكونوا من حرثته وأتباعه، واسْتدلوه على ربّكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتّهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم))(2).
وقال عليه السلام: ((فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجّة الله على خلقه أخذ عليهم ميثاقه وارتهن عليه أنفسهم، أتمّ نوره، وأكمل به دينه وقبض نبيه صلى الله عليه وآله وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به))(3).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ((إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه))(4).
وعنه أيضاً : ((ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف))(5).
كل هذا وغيره كثير من أحاديث أهل البيت المؤكدة على هذه المصدرية العليا والمرجعيّة التي يحتلّها كتاب الله بالنسبة للدين الإسلامي.


وينتج من هذه المصدريّة التي يستمتع بها كتاب الله أن يكون هو المقياس الأوّل والأعظم لقيمة الأفكار والآراء والمفاهيم فكل مفهوم وآيّة فكرة إنما تتحدّد قيمتها وتأخذ حظّها من الخطأ والصواب في المنطق الإسلامي بمقدار ما توافق كتاب الله وتنسجم من مبادئه وبما تواكب أهدافه ومقاصده.
وهذه الحقيقة تعني أن يكون كتاب الله ضماناً حقيقياً لتابعيه ومتمسّكيه والمستضيئين بنوره من الانحراف أو الضلال والزيغ.
فما دام كتاب الله مُحاطاً برعاية السّماء مصوناً عن عبث الأهواء وتلاعب الأغراض فمن سار في موكبه واعتصم بحبله واستمسك بعروته فهو آمن من التّيه والضلال مطمئن من التردّي والانزلاق.
التفاعل مع القرآن:

وقد خلصنا من الموضوع السابق إلى نتيجة أن القرآن هو النقطة المركزيّة في الإسلام، التي تشدّ إلى نفسها المهتدين بهديها والمتبّعين لأمرها وتحفظهم من كل مسّة شيطانيّة وبهذا أصبح القرآن القوة العظمى التي يبقى ببقائها الإسلام.
ونودّ أن ننتقل من هذا إلى حديث مقتضب عن هذا الانشداد إلى القرآن والاتّباع المطلق له مما هو أقرب الوسائل وأيسرها إلى تحصيله والذي أشار أئمة الإسلام وقادته إليه.
ولا شك أن هذا الإتباع والانقياد إنما يحصل في أيسر طرقه بالاقتراب المتزايد من كتاب الله والانتهال من نبعه الصافي ومورده العذب.
وأفضل سبل هذا الاقتراب والارتشاف من معين القرآن هو التفاعل الحقيقي مع كتاب الله والمواكبة الصادقة مع وحي السماء.
وتعني بالتفاعل معه الامتزاج مع القرآن وامتزاج القرآن مع الإنسان روحاً وعقلاً وعاطفة وعملاً وهدياً وسُلُوكاً.
فالتفاعل في واقعه هو أن تتأثر بالأثر الذي يريده القرآن أن يخلّفه في الوجود الإنساني فإن كانت الآية آية عقاب فحقيقة التفاعل معها هي أن نعيش هذه الآية مضمونها ومعناها بأرواحنا وعقولنا وجسومنا وإن كانت الآية آية أمر وتوجيه فسنستشعر بقلوبنا حين قراءتها وتلاوتها برد الخضوع لله والتسليم المطلق له وإنْ كانت الآية آية إنذار وردْع ونهي فنطوي بضمائرنا على التزام الارتداع ونضمر لله كمال الخلوص والانقياد.
ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الأحاسيس والالتزامات القلبيّة الخالصة على سلوك القارئ وعلى أعضائه وجوارحه ما دام ذلك التأثر تأثراً واقعياً حقيقياً وذلك الانقياد انقياداً خالصاً عن شوائب الأهواء بريئاً من علائق النزعات.
وقد دعا قادة الإسلام جماهير المؤمنين إلى هذا التفاعل والانسجام مع القرآن وأكدّوا عليه وجسّدوا في كلماتهم وتوجيهاتهم معاني التسليم والانقياد والتفاعل الحقيقي مع كتاب الله. وفيما يلي نصوص من أئمة أهل البيت تتجلى في خلالها حقيقة التفاعل القرآني.
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبته حول وصف المتقين:
((أما الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية. فيها تخويف، أصْغَوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أن زفيرها وشهيقها في أصول آذانهم))..
فلنطالع قوله عليه السلام: ((يستثيرون به دواء دائهم)) لنفْهم كيف أن الذين سموا في مدارج التّقى وارتفعوا في سماء النهى غاروا وتوغّلوا في عالم القرآن فاستنطقوه أسرار الحياة واستوهبوه دواء معضلاتهم الكبرى وكيف أنهم طالعوا القرآن لا ككلمات يمرون بها ويلقون نظرة عابرة عليها وإنما نظروا إلى القرآن كمشاهد ماثلة أمامهم وعوالم متجسّدة فيما حولهم فنار القرآن ليست نار الكلمة وإنما هي نار الزفير والشهيق، وجنّة القرآن ليست هي جنّة العبادة وإنما هي جنّة الأشواق التي تطير إليها نفوس المتقين وتحلّق في أجوائها أرواح المؤمنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار.
(2) نهج البلاغة بشرح الإمام محمد عبدة ج2 ص29 وقد ذكر الشيخ محمد عبدة في توضيح هذا المقطع الأخير من كلام الإمام: إذا خالفت آراؤكم القرآن فاتهموها بالخطأ واستغشوا أهواءكم: أي ظنّوا فيها الغشّ وارجعوا إلى القرآن.
(3) نفس المصدر، ص111.
(4) وسائل الشيعة ج81 ص48.
(5) الوسائل ج18 ص78.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد