قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

النَّسخُ في القرآنِ الكريم

 

الشيخ جعفر السّبحاني .. 

لقد قسّم المختصّون بعلوم القرآن النَّسخَ إلى أقسامٍ ثلاثة:
1) نسخُ الحُكم دون التّلاوة. 2) نسخُ التّلاوة دون الحُكم. 3) نسخُ الحُكم والتّلاوة. 
وإليك دراسة جميع الأقسام:
نسخُ الحُكم دون التّلاوة
إنّ القدَر المتيقّن من النّسخ هو هذا القسم، وقد أصفقَ على جوازه علماءُ الإسلام، والمُراد منه: بقاءُ الآيةِ ثابتةً في الكتاب مقروءةً عبْر العصور، سوى أنّ مضمونَها قد نُسِخ، فلا يجوز العملُ به بعد مَجيء النّاسخ. 
وقد اهتمّ المفسّرون بهذا النوع من النّسخ، وألّفوا حوله كُتباً كثيرة يقف عليها من سَبر المعاجم. وألّف غيرُ واحدٍ من أصحابنا في هذا المضمار بما يبلغ عشرين كتاباً [راجع: السبحاني، مفاهيم القرآن: ج 10، ص 365 - 368]
وأمّا عدد الآيات التي ورد عليها النّسخ؛ فهناك قولان بين الإفراط والتفريط. فقد أنهاها أبو جعفر النّحاس (ت: ٣٣٨ هجريّة) إلى ١٨٠ آية في كتابه (النّاسخ والمنسوخ). في المقابل، قام بعضهم بإنكارِ أصلِ النّسخ في القرآن الكريم، فبَحث عن ٣٦ آية، وخرج بحصيلةٍ هي إنكار النّسخ فيه. 
والحقُّ هو القول الوسط، وهو وجودُ النّسخ في القرآن الكريم بمقدارٍ ضئيلٍ للغاية، منها آية النَّجوى [المجادلة:12]، وآية التَّرَبُّص إلى الحَول [البقرة:240]. 
والنوع المعروفُ من هذا القسم هو نسخُ آيةٍ بآيةٍ أُخرى، وأمّا نسخُ آيةٍ بخبرٍ متواتر، أو مُستفيض، أو خبرِ الواحد، فقد اختلفت فيه كلمةُ المفسّرين، والحقّ جوازُ نسخ القرآن بدليلٍ قطعيٍّ لا يتطرّق إليه الشكّ، وهو الخبرُ المتواتر في كلِّ قرنٍ وعصر، وأمّا المُستفيض وخبرُ الواحد فلا ينسخ بها القرآن، لأنّ رفعَ اليدِ عن القطعيّ بدليلٍ غيرِ قطعيّ أمرٌ غير معقول.


نسخُ التّلاوة دون الحُكم
والمُراد منه هو سقوطُ آيةٍ من القرآن الكريم كانت تُقرأ، وكانت ذات حكمٍ تشريعيّ ثمّ نُسِيت ومُحِيت عن صفحةِ الوجود، وبَقِيَ حكمُها مستمرّاً غيرَ منسوخ. وقد ذهب إلى جواز هذا القسم فريقٌ من أهل السنّة. 
قال محمّد عبد العظيم الزّرقاني المتوفّى سنة 1948 م في كتابه (مناهل العرفان): «أمّا نسخُ التّلاوة دون الحُكم، فيدلّ على وقوعه ما صحّت روايته عن عمر بن الخطاب وأُبيّ بن كعب، أنّهما قالا: وكان فيما أُنزِل من القرآن: الشّيخُ والشّيخةُ إذا زَنيا فارجموهما البتّة». [رواه: أبو داود في الحدود: ١٦؛ وابن ماجة في الحدود: ٩؛ ومالك في الحدود: ١٠؛ وأحمد بن حنبل في مسنده: ج ٥، ص ١٨٣، دار صادر]  
ثمّ يقول الزّرقاني: «وأنت تعلم أنّ هذه الآية لم يَعد لها وجودٌ بين دَفّتي المصحف، ولا على ألسنةِ القرّاء مع أنّ حكمها باقٍ على أحكامِه لم يُنسَخ. ويدلّ على وقوعه [نسخ التلاوة دون الحُكم] أيضاً ما صحّ عن أبي موسى الأشعري أنّهم كانوا يقرأون سورةً على عهد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في طولِ [بِحَجم] سورة البراءة، وأنّها نُسيت إلّا آية منها؛ وهي: لو كان لابنِ آدمَ واديان من مال لَابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلّا التّراب، ويتوب اللهُ على مَن تاب».
يُلاحَظ على هذا الكلام ثلاثة أمور:
أوّلاً: أنّ ما ذكرَه الزّرقاني من الرّوايات أخبارُ آحاد، لا يثبت به كوْن الآية قرآنيّة، باقٍ حكمُها منسوخةٌ تلاوتُها. مضافاً إلى أنّ ما ذكره من وجود سورة على عهد رسول الله بطول سورة براءة، هو من قبيل القسم الثالث، أي نسخ الحُكم والتّلاوة، لا الثاني. ولا أقلّ من احتمال كونه منه، إذ ليس بأيدينا شيءٌ حتّى يُحكَم عليه بشيءٍ من القسمين، وأنّها هل بقِيت أحكامُها أم لا، ولعلّها من قبيل ما نُسِخت أحكامُها وتلاوتُها معاً. 
قال السيّد الخوئي في (البيان: ص 285): «أجمعَ المسلمون على أنّ النّسخ لا يثبتُ بخبر الواحد، كما أنّ القرآن لا يثبتُ به. وذلك لأنّ الأُمور المهمّة التي جرَت العادة بشيوعِها بين النّاس وانتشار الخبرِ عنها، لا تثبتُ بخبرِ الواحد، فإنّ اختصاصَ نقلِها -ببعضٍ دون بعض- بنفسِه دليلٌ على كَذِب الراوي أو خطَئِه. 
وعلى هذا فكيفَ يثبتُ بخبر الواحد أنّ آية الرَّجم [الشّيخ والشّيخة] من القرآن وأنّها نُسِخت؟! نعم جاء [بعضُهم] بآية الرّجم وادّعى أنّها من القرآن، لكنّ المسلمين لم يقبلوا منه، لأنّ نقلَها كان منحصراً به، فلم يُثبِتوها في المصاحف، لكنّ المتأخّرين التزموا بأنّها كانت آيةً منسوخةَ التّلاوة باقيةَ الحُكم».
ثانياً: إنّ القرآن الكريم معجِزٌ بلفظِه ومعناه، متّحدٌ بفصاحتِه وبلاغتِه، وقد أدهَشَت فصاحةُ ألفاظِه وجمالُ عباراته، وبلاغةُ معانيه وسموُّها، وروعةُ نظمِه وتأليفه، وبداعةُ أُسلوبه عقولَ البُلغاء. وما زُعِم من الآيات التي بقِي حكمُها ليست إلّا عباراتٍ لا تُداني آياتِ القرآن في الفصاحة والبلاغة، والرّوعة والجمال. وقد نسجَ قولَه: «الشّيخ والشّيخة» على منوال قوله سبحانه: ﴿الزّانيةُ وَالزّاني فاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنهُما مِائةَ جَلْدة ولا تأْخُذُكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ الله..﴾ النّور:2.

وأمّا الآية المزعومة الثانية [لو كان لابن آدم..] فأينَ أُسلوبُها من أسلوب القرآن الخلّاب للعقول؟! وإنّما هي عبارةٌ متداولةٌ على ألسنةِ النّاس. 
ثالثاً: إنّ هذا القول هو القولُ بالتّحريف نفسه، ومن اخترعَ هذا المصطلح إنّما حاول أن يبرّر هذا النّوع من التحريف. ومن العجب أنّ فريقاً من العلماء يجوّزون هذا النّوع من النّسخ -الذي هو عبارة عن نوع من التّحريف- ثمّ يتّهمون الشّيعة بالتّحريف ".."


نسخُ الحُكم والتّلاوة
قد جوّزه جماعة من علماء المسلمين، ومثّلوا له بالرّواية التالية: «.. عن عمرة، عن عائشة أنّها قالت: كان في ما أُنزل من القرآن عشرُ رضعاتٍ معلومات يحرّمن، ثمّ نُسِخنَ بخمسٍ معلومات، فتُوفّي رسولُ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وهنّ في ما يُقرأ من القرآن». (صحيح مسلم، ج 4: ص 167، دار الفكر)
قال الزّرقاني: «أمّا نسخُ الحكم والتّلاوة جميعاً، فقد أجمعَ عليه القائلون بالنّسخ من المسلمين، ويدلّ على وقوعِه سمعاً ما ورد عن عائشة أنّها قالت: كان في ما أُنزل من القرآن عشر رضعات..[الحديث] وهو حديثٌ صحيح، وإذا كان موقوفاً على عائشة فإنّ له حكم المرفوع ".." وأنت خبيرٌ بأنّ جملة عشر رضعات معلومات يحرّمن ليس لها وجودٌ في المصحف حتى تُتَلى، وليس العمل بما تُفيده من الحكم باقياً، وإذاً يثبت وقوعُ نسخ التّلاوة والحُكم جميعاً، وإذا ثبتَ وقوعُه ثبتَ جوازُه، لأنّ الوقوع أدلُّ دليلٍ على الجواز، وبطل مذهبُ المانعين لجوازه شرعاً، كأبي مسلم وأضرابه». [ورودُه في كُتب الحديث لا يعني وقوعَه، فتأمّل]
وكفانا في الردّ على ذلك، ما ذكره السّرخسي في (أُصوله) حيث قال: «والدّليل على بطلان هذا القول [نسخُ الحُكم والتّلاوة جميعاً]، قولُه تعالى: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون﴾ الحجر:9. ومعلومٌ أنّه ليس المُراد الحفظُ لديه تعالى، فإنّه يتعالى من أن يوصَف بالغَفلة أو النّسيان، فعرفنا أنّ المراد الحفظَ لدينا، وقد ثبت أنّه لا ناسخَ لهذه الشّريعة بوحَي ينزل بعد وفاة رسول الله عليه السلام، ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحِي إليه، لَوَجبَ القولُ بتجويزِ ذلك في جميعِه، فيُؤدّي ذلك إلى القول بأنْ لا يبقى شيءٌ ممّا ثبتَ بالوحي بين النّاس في حال بقاء التكليف. وأيُّ قولٍ أقبح من هذا؟! ومَن فتح هذا الباب لم يأمَن أن يكون بعضُ ما بأيدينا اليوم أو كلُّه مخالفاً لشريعة رسول الله، بأنْ نسخَ اللهُ ذلك بعدَه، وألَّف بين قلوبِ النّاس على أنْ ألهمَهم ما هو خلافُ شريعتِه. فَلِصيانة الدّين إلى آخر الدّهر أخبرَ الله تعالى أنّه هو الحافظ لِما أنزلَه على رسولِه، وبه يتبيّنُ أنّه لا يجوز نسخُ شيءٍ منه بعدَ وفاتِه. وما يُنقَلُ من أخبار الآحاد شاذٌّ، لا يكاد يصحُّ شيءٌ منها ".." 
وحديثُ عائشة لا يكاد يصحّ، لأنّه [الرّاوي] قال في ذلك الحديث: وكانت الصّحيفة تحت السّرير، فاشتغلنا بدفنِ رسولِ الله، فدخلَ داجنٌ البيتَ فأكلَه. ومعلومٌ أن بهذا لا ينعدم حفظُه من القلوب، ولا يتعذّرُ عليهم إثباتُه في صحيفةٍ أُخرى، فعرَفنا أنّه لا أصلَ لهذا الحديث». (أصول السّرخسي، ج 2: ص 79، دار الكتب العلمية) 
ومن الغرائب ما تضافر نقلُه عن عائشة أنّها قالت: «كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله مائتي آية، فلمّا كُتب المصحف لم يقدَر منها إلّا على ما هي الآن». (أنظر: تفسير القرطبي [الجامع لأحكام القرآن]، ج 14: ص 113، دار إحياء التراث العربي، وفيه أيضاً رواية القرطبي عن أُبيّ أن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة أو أطول، ويُضيف: فمعنى هذا من قول أُمّ المؤمنين عائشة أنّ الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندن)
ولَعمْر الحقّ إنّ هذا القول بالتّحريف نفسه، وهو الذي أجمعت الأُمّة على بطلانِه، وأخذَ الله تعالى على نفسه أن يحفظَه فقال عزّ وجلّ: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون﴾ الحجر:9. 
ثمّ إنّ تفسير هذا النوع من التحريف بنسخِ التّلاوة والحكم تلاعبٌ بالألفاظ، وتعبيرٌ آخر للتّحريف، وقد عرفتَ أنّ القرآن معجِزٌ بلفظِه ومعناه، فما معنى رفع هذا الحجم الهائل من الآيات القرآنيّة؟ أكان هناك نقصٌ في لفظِه ومنطوقِه، أم نقصٌ في حُكمِه ومعناه؟! نعوذ بالله تعالى من التفوّه بذلك. 
ومن نافل القول إنّ هذا النّوع من النّسخ باطلٌ عند علماء الشيعة الإماميّة ".." وَلَنِعْمَ ما قال الشّيخ محمّد رضا المظفر في (أصول الفقه): «إنّ نسخَ التّلاوة -في الحقيقة- يرجعُ إلى القول بالتّحريف».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة