علمٌ وفكر

الأخلاق العلميّة (1)

 

محاولة لإعادة استحضار القيم الأخلاقيَّة في النَّشاط المعرفي


الشيخ حيدر حبّ الله .. 

تمهيـــــد
تمتدّ القيم الأخلاقية إلى مختلف مرافق الحياة لتحكمها، بدرجة من الدَّرجات، وتوجّهها نحو رشدها وصوابها، وتعيدها إلى طريقها القويم المرسوم وفاقاً للسنّة والفطرة، وتعكس القيم الأخلاقية في مظاهرها حقائق أسمى تتصل ليس فقط بما ينبغي وما لا ينبغي، بل بما هو الأحسن كوناً وتحقُّقاً في عالم الوجود ـ ولو الإنساني ـ بمعنى من المعاني.
وتمتدّ درجة تأثيرات القيم والمثل الأخلاقية إلى مجالات في الحياة تؤدِّي هذه المثل دور الإسهام في إصابتها وحقَّانيتها، ومن هنا لم تنحصر الأخلاق بالبعد الاجتماعي بل شملت أبعاداً أخرى أيضاً.
وواحدٌ من هذه الأبعاد هو البعد العلمي، إذ إن التصوّر السائد لدى بعضهم يقضي بوجود قيم أخلاقية تتصل بالحياة العلمية من دون أن يجري فهم كيف تؤثر هذه القيم في ترشيد المعرفة نفسها، أي أن ثمة تصوُّراً بأن القيم الأخلاقية للعالِم ـ أي عالِم ـ قيمٌ تتصل بمرحلة بعدية ثانوية لمرحلة عالميته وفكره وتأمُّلاته، فالعالم في مختبره أو بين كتبه ودفاتره يخضع لقوانين معرفية عليه أن يطبِّقها حتى ينجح في الوصول إلى نتائج سليمة، أما الأخلاق فهي مسائل اجتماعية يتعاطاها هذا العالِم بعد خروجه من المختبر أو عقب طيّه لكتبه ودفاتره في ما بينه وبين الآخرين، ولهذا نجد أن أكثر محتويات كتب الأخلاق العلمية تصبّ اهتمامها ـ في الغالب ـ على علاقات تقع خارج دائرة البحث العلمي نفسه، أي في علاقة الأستاذ بتلميذه أو التلميذ مع أستاذه إلخ...، كما هو الحال في كثيرٍ من فصول كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» للشهيد الثاني، زين الدين العاملي الجبعي (رحمه الله)(م965 هـ)، وغيره من الكتب، لكن التأمل أكثر في هذا الجانب، وما تساعد عليه منجزات العلوم الإنسانية الحديثة، يفضي بنا إلى القول: إنَّ أخلاقية الفرد الباحث لها آثار جدّية على بحثه وفكره وعلمه حتى لو لم يخاطب بهذا العلم أحداً، وهو ما تعرّضت له أيضاً جملة من كتبنا الأخلاقية، فعلى سبيل المثال الشخصية المنفعلة أو الانفعالية، هذه الشخصية إذا دخلت في بحث علمي مثير لانفعالها، غالباً ما تتحكم فيها انفعالاتها، لتسير بها نحو طريق محدَّد، فعندما يدخل المعتزلي، المتّسم بشخصية من هذا القبيل، بحثه في خلق القرآن فإنه لن يقدر بسهولة على قمع ميوله الذاتية التي تجرفه نحو القول بحدوث القرآن...، لأنَّه دخل البحث في حالة غضب من الطَّرف الآخر (الأشعري)، إن تحكُّم حالة الغضب والانفعال هذه بشخصية باحثٍ ما له مردود سلبي للغاية، وهو ما سنلاحظ بعض واقعه، وبإيجاز، إن شاء الله تعالى.

وهذا يعني أن القيم الأخلاقية ـ وكما تشير نصوصنا الدينية ـ ليست معزولةً عن النشاط المعرفي من حيث هو نشاط معرفي، وينجم عن ذلك القول: إن إصلاح مناهجنا المعرفية وأنماط تفكيرنا أمرٌ مرهون، إلى حدٍّ معين، بإصلاح أخلاقياتنا البحثية، فما لم نسع إلى إصلاح تلك الأخلاقيات فإن إصلاح معرفياتنا سيكون أمراً مشوباً بشيء من الخطر.
إنَّ السَّلبيات الأخلاقية تمثل موانع أمام ترشيد نشاطنا الذهني سيما في الدائرة الدينية، فما لم نحز ـ وهو أمرٌ ليس بهذه السهولة ـ على شخصية تتمتَّع بميزات أخلاقية تمس البحث العلمي فلن نقدر على تحصيل أكبر عدد من ضمانات الصحة والصواب في هذا البحث.
ولا نقصد بالبحث العلمي خصوص تلك الحالة المعهودة لباحث، ذلك أن كل إنسان مطَّلع يمكن أن يتمثَّل شخصية باحث علمي، فليس المقصود بالباحث المجتهد في العلوم الدينية أو أستاذ الجامعة أو المفكر أو المنظّر إلخ... فحسب، بل حتى عموم طلبة الحوزات والمعاهد والجامعات الدينية وجميع الجامعيين العاملين في مختلف الاختصاصات، وربما ما هو أوسع من ذلك أحياناً كثيرة.
وعندما يُعَنْوَن هذا المقال بعنوان: «الأخلاق العلمية»، فإن في العنوان عدة إشارات مقصودة:
أولاها: إن هذه الأخلاقيات نابعة من وصف العلم والعالم، وكما كانوا يقولون قديماً: إن الوصف مشعرٌ بالعلّية، أي أن عنوان العلم والعالم يستدعي ـ في اعتقاد كاتب هذه السطور ـ سلسلة من الأخلاقيات، تماماً كما نقول أخلاق الإيمان وأخلاق المؤمن؛ حيث نعني أن إيمان المؤمن يتطلّب منه أخلاقاً خاصةً ويدفعه لتحقيقها، فعلم العالم يتطلّب منه أخلاقيات خاصة.
وثانيتها: لم نخصِّص العلم بوصف الديني أو غيره، قناعةً بأن هذه الأخلاقيات ـ في الأغلب ـ كما سنلاحظ ـ تعود لسمة البحث العلمي مهما كان، ويفترض أن يتحلَّى بها كل باحث بعيداً عن توجُّهه وقناعاته واهتماماته، وإن عنى اهتمامنا ـ بالدرجة الأولى ـ المناخ الفكري والثقافي الديني.

والسَّبب الذي يدفعنا للحديث عن إعادة استحضار مقولة الأخلاق العلمية هو ما نلاحظه اليوم من واقع مأزوم على الصعيد الثقافي ـ الفكري، ومن جزر ثقافية تعيش على قطيعة شبه كاملة في ما بينها، ونرى أن حالتها تعود ـ في ما تعود إليه ـ إلى إشكاليات أخلاقية في النشاط المعرفي نفسه، علاوة على توتّرات في عملية الحوار نفسها، من دون أن نتورّط في الولوج إلى أعماق الأنفس والنوايا التي لا يعلمها إلا الله تعالى لنتجنّب الدخول في عمليات تصنيف أتخمت الساحة الثقافية منها، الأمر الذي بات ينادي على القائمين على العمل الفكري والثقافي في الوسط العربي والإسلامي عموماً للإعداد لنُظُم ذات طابع أخلاقي قادرة على الحدّ من تكوين بؤر توتّر، أو إنتاج عناصر موتورة، ومن ثم مجتمع موبوء.


القيم الأخلاقية للبحث العلمي
ليس هناك من قدرة على الإحاطة بجميع القيم التي تحكم النشاط الفكري والعلمي، لكننا سوف نشير هنا إلى بعضٍ منها على الشكل الآتي:
1 ـ الأمانة العلميَّة
من أهمِّ أخلاقيَّات البحث العلمي، الأمانة العلمية، ولهذه الأمانة مظاهر عديدة أبرزها:

أ ـ احترام الملكية الفكرية للآخرين؛ إذ إن ما يسمِّيه بعضهم ظاهرة السرقة (1)الفكرية، ظاهرة عامة وواسعة في زماننا وما قبل زماننا أيضاً، فإذا ما راجعنا الكتب القديمة مثلًا سنجد أن هناك الكثير من النصوص، وأحياناً الصفحات، ينقلها المؤلفون عن بعضهم بعضاً من دون أن يشيروا إلى أن هذه النصوص أو المقاطع أو الآراء ليست من ابتكارهم وإنما أخذوها عن غيرهم، وهو ما يوحي أوّلياً للمطالع غير الواسع التتبع بملكية هذا المؤلف لهذه الفكرة والحال أنها ملكٌ لغيره، وهكذا الحال في زماننا المعاصر، ولعله أكثر من الماضي، فهناك مؤلَّفات مستقلة ينسبها أصحابها إلى أنفسهم فيما ترجع هذه المؤلَّفات إلى مؤلّفين آخرين، ولو أنها عبارة عن أجزاء مقتطفة من كتب كثيرة جرت إضافة شكلية عليها لتغيير مظهرها الأوَّلي، بل يوحي الكثير من الأساتذة، في المعاهد العلمية، إلى تلاميذهم أنهم أصحاب فكرة معينة، والحال أنهم قد حازوا عليها من مصادر أخرى لم يطّلع التلاميذ عليها بعدُ أو من كتب ومخطوطات لم تصل إلى أيديهم، أو من مؤلَّفات تعود للغةٍ أخرى لم يعرفها الطلّاب أو لم يسمعوا بها.
إن احترام الملكيات الفكرية والإبداعية للناس ـ وبعيداً عن الجدل الإسلامي الفقهي في هذا الموضوع ـ صار ضرورةً أخلاقية ماسّة تُسْقِط متجاهلها نفسه عن الاعتبار في ما بعد، وتصيّره إنساناً يتاجر بأفكار الآخرين وجهودهم ولو بطريقته الخاصّة، سيما وأن تطور وسائل المعلومات والاتصال قد سهَّل كشف مثل هذه التصرفات لكثير من الناس، ومن هنا تصبح الحاجة ماسَّةً إلى إشاعة ثقافة التوثيق سيما في المعاهد الدينية التي لم تعتد سابقاً ـ كالمناخ الفكري العام قديماً ـ على هذه الظاهرة، فكلَّما نقل الباحث شيئاً عن باحث آخر، وكانت فكرة الثاني مستمدَّةً من الأوَّل، فمقتضى أخلاقية الأمانة العلمية توثيق المصدر بالدقة تحرُّزاً عن التورّط في منافيات أخلاقية.
 والذي حصل، في الوسط الثقافي في العالم الثالث، في العقود الأخيرة، هو استعارة مفاهيم ومقولات جرى إنتاجها وتصنيعها في مناخات ثقافية وعلمية أخرى ليعاد إنتاجها، أو بتعبير أدق، «تبييئها» في حقل معرفي أو ثقافي مختلف على أساس افتراضها إبداعات أو ابتكارات ذاتية، دونما إشارة إلى المصادر التي استقي منها هذا النِّظام المفاهيمي، وهو أمرٌ إذا دقَّقنا فيه، وفي تجربة العالم الثالث، لوجدنا أحياناً ظلالًا اشتملت طيفاً واسعاً أكثر من حقائق وواقعيات.
لكنَّ ذلك لا يعني إتهام الكتّاب بعدم تقدير الملكيات الفكرية لمجرّد تشابه فكرتهم مع فكرة أخرى، لأن تشابه الأفكار أمرٌ كثير الوقوع، ومن سوء الظن التسرّع في الحكم في أمثال هذه الموارد.

ب ـ الدقَّة في نقل أفكار الآخرين: لقد تميَّز بعض الفقهاء المسلمين بدقته العالية في ضبط الآراء والأقوال لدرجة أنهم كانوا يميزون الأقوال بعبارة دقيقة جداً، فإذا أرادوا نقل كلام لفقيه يقول «الأنسب كذا وكذا» لا يعبرون بكلمة «قوّاه» و...، بل يأخذون تعابير تطابق موقفه ودرجته كقولهم استنسبه، وهكذا يقولون قوّاه إذا قال على الأقوى، واستجوده إذا قال «الأجود كذا...» و...، بل بلغت بهم الدقة أحياناً إلى حدّ تحديد المواضع التي اختار فيها هذا القول، فلو كان له كلامان عن شرطية معلومية العوضين، أحدهما في كتاب البيع وثانيهما في كتاب الإجارة، قالوا: ذهب إليه في إجارته، ولم يقولوا مطلقاً أو سكتوا بما يوحي أن له موقفاً واحداً، وهذا ما يفعلونه مع كتبه فيقولون: اختاره الطوسي في خلافه وعدل عنه في مبسوطه واقتصاده، أو يعبّرون: ذهب إليه أحمد بن حنبل في رواية، وهكذا...

وتعدّ مسألة الدقّة في نقل أقوال الآخرين أو بيانها، قضية حسَّاسة جداً، فقد حصل أن ميّز علماء أصول الفقه المتأخرون تقريرات بعض العلماء ممن سبقوهم، فقالوا: هذا التقرير لدروس الميرزا النائيني مثلًا أدقّ من ذاك التقرير، وتمّ استخدام تعابير تفيد أن هذا القول لعله من اشتباه المقرِّر لا المقرَّر له (2)، وهكذا...
وهذا التدقيق تطوّر أكثر فأكثر إلى حد نقل النصوص الحرفية لمن سبقهم من العلماء، كما هو الحال مع الشيخ مرتضى الأنصاري (م 1281هـ) وغيره، وهو ما ربما يعده بعضهم اليوم بمثابة تجميع لا فائدة منه. إن التدقيق في مواقف العلماء والمفكرين، من أي اتجاه أو مذهب أو دين أو مدرسة كانوا، صار اليوم علامة الباحث الدقيق والمنصف، بل لم يعد يقتصر هذا الأمر على موردٍ واحدٍ من الموارد التي أثار فيها هذا العالم أو المفكّر هذه النقطة بل صار لا بُدّ من إطلالة على مختلف مصادره أحياناً، سيما إذا كان الموضوع في غاية الحساسية، تماماً كما يراه بعض الباحثين المعاصرين (3)حول نسبة القول بتحريف القرآن إلى الفيض الكاشاني انطلاقاً مما جاء في سلسلة مقدّمات كتابه التفسيري الروائي «الصافي»، حيث إن مراجعة بعض ما ذكره في هذا الموضوع في كتابه «علم اليقين» يفيد في التعرّف على موقفه بدقّة أكثر حتى لا يجري نسبة القول بالتحريف إليه اعتماداً على نصٍّ واحد مع تجاهل نصوصه الأخرى في المصادر الأخرى، كما فعل بعض الناقدين من أهل السنّة، وكما يفعل بضعهم في عصرنا الراهن، حيث يجري الاقتصار على نصٍّ واحدٍ لكاتب أو باحث، ليعقب ذلك محاكمته على أساسه بعيداً عن مجموعة النصوص والكلمات الأخرى، بل سرى الأمر في أحايين أخرى إلى استخدام نمط تقطيع النصوص وسلخها عن سياقاتها المحيطة بها كلاماً أو مقاماً.

ومن هنا يمكن أن يلاحظ، على بعض حركات الترجمة التي تحصل، سيما مؤخّراً، ما بين اللغة الفارسية والعربية، حيث يقوم بعض المترجمين بتطعيم ترجمته بما يؤدي إلى إضافة مطالب أو حذف أمور قد يعتقد هو أنها هامشية، فيما الأمر ليس كذلك، سيما إذا كان مصبّ الترجمة شخصيات بارزة يمكن أن تقع محلًّا لدراسة الباحثين وقراءتهم في ما بعد.
إن التَّسامح في نقل أفكار الآخرين وفهمها له مردودات سلبية، وربما تكون أحد أسبابه العجلة واللاتروّي في دراسة الأمور وتهيئة المقدّمات أو اللامنهجية في ورود الأبحاث واستخدام القلم، الأمر الذي يحصل مع بعض الكتّاب حينما يعمد إلى تأليف كتاب أو مقالة دونما اعتماد على ما يسمُّونه منطق تنظيم البطاقات التي تجمع المصادر بدقة وعناية، فنسبة الأفكار بطريقة مشوّشة يؤدي إلى العديد من المخاطر العلمية، ولا فرق فيه بين عالم أو باحث وبين آخر، فبعض الباحثين كثير التشدّد في تحديد مواقف بعض المفكّرين فيما يتساهل في آراء مفكّرين آخرين، ويكتفي لنسبة قول إليهم بنقل القيل عن القال، وهو أمرٌ يحتوي على نوع من الانتقائية غير المسوَّغة في كثير من الحالات، إذ كيف يحقّ لنا من زاويةٍ أخلاقيّةٍ ممارسة درجة عالية من التحفّظ قبل نسبة مقولةٍ إلى شخص ما، فيما تجري أقلامنا وبسرعةٍ كبيرةٍ حينما يكون الحديث عن شخصٍ آخر لننسب له مقولةً أو فكرة؟!


2 ـ الأفكار أو الأشخاص
يتعاطى البحث العلمي مع الأفكار والمعلومات بوصفها مادةً له، أما الأشخاص فلا علاقة لهم بهذا البحث في غالب الموارد والحالات، وهذا معناه أن البحث العلمي لا يدخل في جدال مع الأسماء والأشخاص بقدر ما تعنيه الأفكار نفسها، فبقطع النظر عن مدى التأييد الذي تحظى به فكرةٌ ما أو مدى الرفض والتقريع الذي تعاني منه فكرة أخرى على المستوى الاجتماعي والثقافي الرسمي أو السياسي إلخ...، فإن البحث الأمين يستدعي التعامل مع الفكرة دونما نظر إلى حجم تأثيرها وشعبيتها إذا ما كان الهدف هو الحقيقة النظرية، وهذا معناه أن الموقف من شخص معيَّن، أو تيار معيَّن، أو فئة معيَّنة لا ينبغي أن يكون أساساً في الحكم على فكره أو رأيه في قضية هنا أو هناك، فإن ذلك نوع من إقحام العناصر النفسية والذاتية في الجهد العلمي والتحقيقي، وهو ما يدفع الباحث ـ لا شعورياً ـ إلى التأثر النفسي من هذا الأمر، ويقود العديد من الباحثين إلى تأييد فكرةٍ لمجرّد أن فلاناً من الناس قد نطق بها، وبقطع النظر عن مدى امتلاك الذي يؤيد هذه الفكرة أدلة كافية على الاقتناع بها، وهو ما يمثل نوعاً من الاستلاب غير المسوَّغ، بل قد يحصل لدى بعض الناس أن يرفضوا فكرةً معينةً لكن عندما ينطق بها شخصٌ من الأشخاص يقدّرونه أو يحترمونه أو يقدّسونه يتحوّلون عن موقفهم السابق وبسرعة لا تكاد تكون مفهومة في بعض الأحيان، والعكس هو الصحيح فكثيراً ما تكون فكرةٌ ما محلًّا لقبول الشخص الباحث أو الناظر، لكن وبمجرّد أن يتبناها شخصٌ أو اتجاه، يسرع إلى رفضها والتنكّر لها..، وهذا كلُّه يعبّر في الساحة العلمية والثقافية عن واقع مأزوم تتحكم فيه الشخصانيات أو الفئويات أكثر مما تحكمه الأفكار أو الرؤى أو التطلُّعات.

إن الثَّقافة القرآنية ـ على ما يفهمه الكاتب ـ ترفض ظاهرة التقليد، وهي ظاهرة تشلّ حركة الإنسان عن رؤية الحق وتجعله أحياناً مصداقاً لقوله تعالى: {وَأكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون/70]، والرفض القرآني للتقليد وفق هذا الفهم ليس رفضاً جزئياً، وإنما هو تأسيس لأصالة الفكر والعقلانية، أو بعبارة أخرى تأسيس لنوع من أصالة السعي الفردي لكشف الحقيقة والاهتداء إليها، وهي أصالة لها مداليلها ولها عواقبها ولوازمها التي لا بد من الأخذ بأكثرها إن لم نقل بجميعها كي لا نقع في تناقض ذاتي، ومن هنا فإن الثقافة القرآنية ثقافة ترفض الآباء الذين يعبرون عن منهج خاطىء، وتقبل بالآباء الذين يعبرون عن منهج سليم، وهذا معناه ضرورة السعي في المرحلة الأسبق لتحديد الصحة والخطأ، وتبعاً له، تحديد طبيعة الموقف من الآباء، لا اعتبارهم أساساً لتحديد الباطل والحق، أو الحكم السلبي عليهم أو الإيجابي بصورة مسبقة.

إنَّ اللَّاتقليد للآباء تعبير آخر عن اللَّاتقليد للمحيط وللسَّلف، وكسرٌ لمركّب السلف والصالح، لإعادة إنتاج ثنائية جديدة هي: السَّلف الصالح والسَّلف غير الصالح، وإذا ابتعدنا عن كلمة صالح حتى ننأى بأنفسنا عن الإثقال النفسي والخلقي يمكن القول: السَّلف المصيب والسّلف غير المصيب، لا ثنائية واحدة جدلية بين الإصابة والسلفية أو أحادية تبدأ من السلفية وتنتهي بالإصابة.
وما قلناه تعبير آخر عن استبعاد علمي ومدروس للأشخاص عند دراسة الأفكار في مرحلة التقييم النهائي.
لكن هذا الأمر، لا يعني ـ كما هو الحاصل لدى بعضهم ـ نوعاً من ردة الفعل إزاء الأشخاص أو السلف أو التاريخ أو...، ومحاولة للافتخار بنقد السلف وكأن نقد السلف والمشهور تحوّل لدى هؤلاء إلى علامة افتخار أو مؤشرٍ علميٍ للتطور والتخلّف إلى درجة أنه صار يشعر بعيب موافقة الماضين أو الشخصيات، ويشعر أيضاً بذاته وكيانه ووجوده عندما ينقدهم أو يفند جهودهم كلًّا أو جُلًّا أو بعضاً.
والأمر الأكثر غرابةً، على صعيد البصمات الشخصانية في ساحة الفكر والمعرفة، يتمثّل ـ في ما يلاحظ ـ في تمثّل التيار العقلاني التغييري لسلوكيات شخصانية، ففيما يحارب هذا التيار مختلف أشكال الشخصانية والصنمية على الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية إلخ...، تراه ينافح من حيث لا يشعر عن شخصانيات أخرى من طرفه، فنقد بعض المفكّرين الجدد يعبّر دائماً أو غالباً عن تخلّف، والاختلاف في بعض المفردات يسمح ـ لهؤلاء ـ بإجراء عمليات تصنيف مسقطة على الأفراد والاتجاهات، وكأن التغيير والإصلاح والتطوّر والعقلانية إلخ...، أصبحت مفاهيم محتكرة من جانب تيار أو جناح، وهذه في الحقيقة ليست مجرد إشكالية بل تحدٍّ واضح لمدى مصداقية الاتجاه العقلاني الناهض لاختبار مدى جدّيته في السعي لإزالة الظواهر النمطية المتجذّرة في المجتمع.
إن هذه المشاعر والأحاسيس التي تغرق فيها الساحة الثقافية تشل أخلاقيات البحث العلمي، وتبقي الحركة الثقافية في نوع من الجداليات التي غالباً ما تعبّر عن دوَّامات لا مآل لها.
ـــــــــــــــــ
(1)المقدّمة في نقد النثر العربي، علي حب الله، دار الهادي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص 401 و402.
(2)درجت، في القرنين الأخيرين، عادةٌ في الأوساط العلمية الدينية الشيعية، تقضي بأن أكثر الدروس العليا في الحوزات الدينية يجري تدوينها من قبل الطلاب، ومن ثم يقوم أحدهم ـ أو غير واحد ـ بعرضها على الأستاذ (وهو في هذه الحالة المرجع أو أحد المجتهدين المعروفين) لمراجعتها وإعطاء إجازة بنشرها، لتنشر بعد ذلك بقلم الطالب مع الإشارة إلى أنها من دروس الأستاذ الفلاني، وتسمَّى هذه الظاهرة بظاهرة التقريرات، وقد كانت أغلب نتاجات الميرزا محمد حسين النائيني (م 1355هـ) والسيد أبو القاسم الخوئي (م 1413هـ) على هذه الشاكلة، فيما يصرّ أساتذة آخرون على أن يقوموا هم أنفسهم بتدوين أفكارهم بأيديهم، وقد عرف من هؤلاء السيد محسن الحكيم (م 1390هـ).
(3)الشيخ الدكتور فتح الله نجارزاد گان، صاحب كتاب سلامة القرآن من التحريف، والنقل معتمد على السماع المباشر والمشافهة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة