قرآنيات

المعرفة التحليلية للقرآن الكريم (1)

 

الشيخ مرتضى مطهري .. 

يتحدث القرآن عن مسائل جمة ويؤكد على بعض المسائل بدرجة كبيرة وعلى مسائل أخرى بدرجة أقل. ومن جملة المسائل التي يتطرق إليها القرآن، مسألة الكون وخالقه. يجب أن نعرف ما هو فهم القرآن لله؟


هل هذا الفهم، فلسفي أم عرفاني؟
وهل أن القرآن بمستوى الكتب الدينية الأخرى مثل التوراة والإنجيل أم أنه يشبه الرسالات الهندية؟ وهل له أسلوب مستقل في معرفة الله؟
والمسألة الأخرى المطروحة في القرآن، مسألة الكون حيث يلزم تحليل نظرة القرآن حول الكون وهل يعتبر الخلق والكون عبثين ولعبتين أو يعتبرهما حقاً؟ وهل يعتبر سير الكون مبنياً على سلسلة من السُنن والنواميس أم يعتبره شاذاً فلا يشكل أي شيء شرطاً لشيء آخر؟
ومن جملة المسائل العامة المطروحة في القرآن، مسألة الإنسان حيث يتطلب تحليل نظرة القرآن حول الإنسان. هل يتحدث القرآن بتفاؤل حول الإنسان أو أن نظرته سلبية وغير متفائلة تجاهه؟ وهل يعتبر الإنسان حقيراً أو يقيم له كرامة وعزة؟
والمسألة الأخرى، مسألة المجتمع الإنساني، هل أن القرآن يقيم شخصية وأصالة للمجتمع الإنساني أو أنه يعتبر الفرد أصلًا فقط؟ وهل للمجتمع بنظر القرآن، حياة وصوت وتطور وانحطاط أم أن جميع هذه الصفات تختص بالفرد فقط؟ وتطرح في هذا المجال مسألة التاريخ وما هي نظرة القرآن للتاريخ؟ وما هي بنظر القرآن القوى المحركة للتاريخ ونسبة تأثير الفرد في التاريخ؟
ويطرح القرآن مسائل جمة من جملتها رأي القرآن حول نفسه؟ ثم مسألة النبي في القرآن وكيفية تعريف القرآن للنبي وكذلك كيفية تحدثه معه. والمسألة الأخرى تعريف المؤمن في القرآن وصفات المؤمنين و… الخ. كل واحدة من هذه المسائل العامة لها تشعبات وفروع فعلى سبيل المثال عندما نتدارس الإنسان يلزم بالطبع التحدث عن أخلاقه أو عندما نتحدث حول المجتمع نرى أنفسنا ملزمين بالتحدث عن علاقات الأفراد ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسألة الطبقات الاجتماعية و… ومسائل أخرى.


كيف يعرّف القرآن نفسه
من الأفضل عند تحليلنا لفحوى القرآن نبدأ من هذه المسألة وهي أن نعرف ما هو رأي القرآن حول نفسه وكيف يُعرّف نفسه؟
أول ما يقوله القرآن عن نفسه هو أن هذه الكلمات والعبارات هي كلام الله. ويؤكد القرآن أن النبي لم يكتب القرآن بل أنه يبين ما نزل عليه بإذن الله من الروح المقدسة أو جبرئيل.
أما التوضيح الآخر الذي يعطيه القرآن حول نفسه فيتمثل بتعريف رسالته التي هي عبارة عن هداية أبناء البشر وإرشادهم للخروج من الظلمات إلى النور:
كِتابٌ أنْزَلْناهُ إليك لِتُخرجَ الناسَ مِنَ الظلمات إلى النور…
(سورة إبراهيم - الآية 1)
ومما لا شك فيه أن الجهالة هي من إحدى مصاديق هذه الظلمات والقرآن يخرج البشر من هذه الظلمات إلى النور. أما إذا كانت الظلمات تتمثل بالجهالة فقط لكان الفلاسفة قادرين على القيام بهذه المهمة غير أن هناك ظلمات أخرى أخطر من الجهالة حيث يعجز العلم عن مكافحتها ومن جملتها الجشع والغرور وحب النفس و… الخ التي تعد من الظلمات الفردية والأخلاقية والظلمات الاجتماعية أيضاً كالظلم والتفرقة… الخ. أن كلمة الظلم التي تقابلها بالفارسية كلمة «ستم» مأخوذة من كلمة الظلمة التي تعني نوعاً من الظلم الاجتماعي والمعنوي. ومكافحة هذه الظلمات تكون على عاتق القرآن والكتب السماوية الأخرى، فالقرآن يخاطب موسى بن عمران قائلاً:
… أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ من الظُلمات إلى النور…
(سورة إبراهيم - الآية 5)
وهذه الظلمات هي استبداد فرعون وأعوانه بينما النور هو نور الحرية والعدالة.
والملاحظة التي أكد عليها المفسرون هي أن القرآن يذكر الظلمات بالجمع مع الألف واللام لتعبر عن الاستغراق وتشمل جميع الظلمات في حين يذكر كلمة النور بالمفرد باعتبار أن طريق الحق واحد لا غير بينما الانحراف والضلالة لهما طرق متعددة(1) وبذلك يحدد القرآن هدفه؛ تحطيم قيود الجهل والضلالة والظلم والفساد الأخلاقي والاجتماعي وبعبارة أخرى، إزالة الظلمات ومن ثم الإرشاد نحو العدالة والخير والنور.


فهم لغة القرآن
المسألة الأخرى، مسألة فهم القرآن وتلاوته. يتصور البعض أن المقصود من تلاوة القرآن هو قراءة القرآن بهدف الحصول على الثواب من دون فهم أي شيء من معنى الآيات هؤلاء يختمون القرآن على الدوام أما إذا سُئِلوا عما إذا كانوا يفهمون ما يقرأونه فانهم يعجزون عن الإجابة. إن قراءة القرآن لازمة وضرورية باعتبارها بداية لفهم معاني القرآن لا أن تأتي بهدف الحصول على الثواب.
وفهم معاني القرآن، هو الآخر له خصائصه حيث يتطلب أخذها بنظر الاعتبار. وعند مطالعة الكتب يحصل القارئ على سلسلة. من الأفكار الجديدة التي لم تكن موجودة في ذهنه أبداً. وهنا فإن عقل وقوة تفكير القارئ هما فقط اللذان يقومان بالفعالية. وفيما يتعلق بالقرآن، يتوجب مطالعته بهدف التعلم والتعليم. يقول القرآن بهذا الصدد:
كِتابٌ أنْزَلْناهُ اِليكَ مُبارَكٌ لِيدّبروا آياته وَلِيتذَكَرَ أولو الألباب
(سورة ص- الآية 29)

للقرآن وظائف من جملتها التعليم ومن هذه الناحية فإن مُخاطب القرآن هو العقل حيث يتحدث معه بلغة المنطق والاستدلال. إضافة إلى هذه اللغة يملك القرآن لغة أخرى لا يتحدث بها مع العقل بل مع القلب وتسمى هذه اللغة بالإحساس. ومن يريد أن يتعرف على القرآن ويستأنس به يجب أن يكون ملماً بهاتين اللغتين ويستفيد منهما في آن واحد لأن فصلهما عن بعضهما يوقع الإنسان بالخطأ ويضره.
إن ما نسميه عقلاً، عبارة عن إحساس كبير وعميق يتواجد في داخل الإنسان ويسمى أحياناً ب«إحساس الوجود» أي الإحساس بارتباط الإنسان بالوجود المطلق.
ومن يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها، يحركه من أعماق الوجود وفي ذلك الوقت لن يكون الفكر والعقل متأثرين فحسب بل أن جميع وجود الإنسان سيكون متأثراً وعلى سبيل المثال أن جميع أنواع الموسيقى لها عامل مشترك ألا وهو الاحتكاك بعواطف الإنسان، فالموسيقى تثير روح الإنسان وتدخله في عالم خاص من الإحساس. وبالطبع يتباين نوع الإثارة والإحساس المتولدين، من موسيقى إلى أخرى مثلاً يحتمل أن يكون نوع من الموسيقى مرتبطاً بإحساس الشجاعة والبسالة. أذن فهي تتحدث مع الإنسان بهذه اللغة. أنكم تلاحظون في ساحات الحرب أنهم يعزفون الألحان والأناشيد العسكرية ففي بعض الأحيان يكون تأثير هذه الأناشيد أو الألحان قوياً إلى درجة يشجع الجندي الذي لا يخرج من موضعه خوفاً من العدو، أن يخرج من ذلك الموضع ويتقدم نحو العدو ليحاربه. أما النوع الآخر من الموسيقى فيحتمل أن يكون مختصاً بحس الشهوة ومثل هذه الموسيقى تأخذ بيد الإنسان نحو الابتذال والسقوط والانحطاط ويلاحظ أن مثل هذا النوع من الموسيقى له تأثير كبير ويحتمل أن لا يكون بمستطاع أي شيء آخر أن يؤثر بهذه الدرجة في تحطيم جدران الكرامة والأخلاق.
وفيما يتعلق بسائر الغرائز والأحاسيس أيضاً، يمكن عند التحدث بهذه اللغة بواسطة الموسيقى أو بأية وسيلة أخرى، السيطرة عليها تماماً.
ومن أروع غرائز وأحاسيس الإنسان، الحس الديني وفطرة الاتجاه إلى الله. والقرآن يهتم بهذا الحس العظيم والشريف(2)
القرآن يوصي بتلاوته بلحه لطيف وجميل وهو يتحدث مع فطرة الإنسان الإلهية بهذه النغمة السماوية(3) ثم أنه يستعمل لغتين لوصف نفسه ففي بعض الأحيان يعتبر نفسه كتاب التفكير والمنطق والاستدلال وفي أحيان أخرى كتاب الإحساس والحب، وبعبارة أخرى أن القرآن ليس غذاء العقل والفكر فحسب وإنّما غذاء الروح أيضاً.
يؤكد القرآن بدرجة كبيرة على موسيقيته الخاصة، تلك الموسيقي التي تؤثر اكثر من أية موسيقى أخرى في إثارة أحاسيس الإنسان العميقة والنبيلة، ويأمر المؤمنين أن يقضوا بعض الليل في تلاوة القرآن ويقرأوا القرآن في صلاتهم عند توجههم إلى الله. يقول القرآن مخاطباً النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ :
يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً.
(سورة المزمل - الآيات 1 – 4)
والترتيل، يعني قراءة القرآن لكن ليس بسرعة بحيث لا يتم فهم الكلمات، أو ببطء، بحيث تنعدم الصلة بين العبارات. يقول اقرأوا القرآن بتأن مع فهم الآيات ويقول في الآيات اللاحقة:
… فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واقرضوا الله قرضاً حسناً… 
(سورة المزمل - الآية 20)
ــــــــــــــــــ
1 مثلاً نقرأ في آية الكرسي:
الله ولي الذين آمنوا يُخرِجُهُمْ مِنَ الظُلُماتِ إلى النور والذين كفرُوا اولياؤهمْ الطاغوت يُخْرِجُونهم من النور الى الظلماتِ.
(2) قيلت أشياء كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها حول هذا الحس الديني ونورد باختصار أقوال اثنين من المفكرين العالميين، تتعلق الأولى منها بالعالم «انشتاين» الذي يتناول المذهب في إحدى مقالاته ويقول؛ كانت هناك ثلاثة أنواع من المذاهب في العالم هي:
1- مذهب الخوف: أي مذهب جماعة اعتنقت المذهب على إثر مخاوفها من الطبيعة والمحيط.
2- مذهب الأخلاق: هدفه مذهبي ويستند إلى المصالح الأخلاقية.
ثم يتحدث عن مذهب آخر يسميه ب«مذهب الوجود». هذا التعبير يشبه تعبيرنا حول القلب. يعتقد انشتاين ان هذا المذهب يريد في الواقع أن يقول؛ يحصل الإنسان على حالة معنوية وروحية إذا ما خرج وتحرر من نطاق نفسه المحدود والمحاط بالآمال والأحلام الحقيرة والصغيرة والمنفصل عن الآخرين والتحرر كذلك من عالم الوجود الطبيعي الذي يشكل حصاراً حوله. وفي ذلك الوقت يبدأ النظر إلى مجموع الوجود ويرى الوجود حقيقة واحدة ويرى بوضوح الروائع وأنماط العظمة القابعة خلف الظواهر ويتذكر حقارته وتفاهته ثم يرغب في الاتصال بمجموع الوجود. وتعبير انشتاين هذا يذكرنا برواية همام الذي سأل أمير المؤمنين(ع) عن صفات المؤمن فأعطاه الإمام إجابة قصيرة ومقنعة حيث قال:
يا هُمام اِتق الله وأحسن إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
(نهج البلاغة - الخطبة 183)

غير أن هُماماً لم يقتنع بهذه الإجابة وطلب توضيحات أخرى مثلاً سأل عن الحياة والعبادة وكيفية قضاء الأيام والليالي وآداب المعاشرة و… الخ. لذلك تطرق الإمام إلى صفات المؤمن ورسم 130 خطاً من خطوط وجوه المتقين ومن جملة ما قال: لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أبدانهم طرفة عين.
وهذه هي نفس الحالة التي يشير إليها انشتاين قائلاً: إن الإنسان المذهبي يعتبر وجوده نوعاً من السجن المحاصر لأنه يريد أن يطير في قفص الجسم ويرى الوجود كله ككتلة واحدة. هذه الحقيقة قد تجلت بشكل أوسع وأفضل في كلمات أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ. وبرأي الإمام علي ـ عليه السلام ـ كأن المؤمن جمع كل الوجود في جسمه المادي، ولهذا السبب يغادر قالبه ويحرر روحه. يقال إن هُماماً عندما أنهى الإمام حديثه، أطلق صرخة من أعماقه وفرغ القالب.
وفي مجال حس الإنسان المعنوي يسرد الشاعر إقبال لاهوري حديثاً شيقاً فهو يقول؛ ليس هناك أي سر ولغز في هذا الكلام وهو أن الدعاء يعتبر وسيلة الإشراق النفسي والعمل الحياتي والطبيعي وبواسطته تكشف جزيرة شخصيتنا الصغيرة، موقعها في مجموع أكبر من الحياة. وهناك عبارة لوليام جيمز بهذا الصدد؛ دافع الدعاء هو نتيجة ضرورية لهذا الأمر وهو أن أعمق الإرادات الاختيارية والعملية لكل شخص يعتبر نوعاً من الإرادات الاجتماعية ومع ذلك فإن الإنسان يستطيع أن يجد مصائبه الكاملة في عالم أفكاره فقط وإن أكثر الناس يرجعون في قلوبهم إليه سواء باستمرار أو عن طريق الصدفة وأحقر فرد على وجه الكرة الأرضية يحس بهذا التصور السامي، إنه شخص حقيقي وذو قيمة. يحتمل أن يكون هناك تباين بين الناس من حيث درجات التأثر. وهذا التصور يشكل لبعض الناس دون غيرهم الجزء الهام من الوعي الذاتي مثل هؤلاء الناس يحتمل أن يكونوا أكثر الناس التزاماً بالدين، لكنني على ثقة من أن الذين يدّعون افتقارهم الكلي لذلك، لا يخدعون إلا أنفسهم ذلك أنهم يلتزمون بالدين إلى حد ما.
(3) كان الأئمة (ع) يقرأون القرآن بصوت متناغم. بحيث أن المارّة الذين كانوا يسمعون ذلك الصوت، كانوا يتوقفون دون اختيار وينهمكون بالبكاء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة