علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، عضو مجلس خبراء القيادةrn مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي

البحث عن الدين

 

الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي .. 

من الخصائص النفسية للإنسان، الدافع الفطري والغريزي لمعرفة الحقائق، والاطلاع على الواقعيّات، التي تظهر لكل إنسان منذ بداية طفولته حتى نهاية عمره، وهذا الدافع الفطريّ لمعرفة الحقيقة الذي يعبر عنه أحياناً بـ (حبّ الاستطلاع) يمكن له أن يدفع الإنسان إلى التفكير والتأمل في القضايا والمسائل التي طرحت باسم الدين، ومحاولة البحث عن الدين الحقّ. ومن هذه القضايا:
هل هناك وجود لموجود غير محسوس وغير مادّي (الغيب)؟، وإذا كان له وجود فهل هناك علاقة بين عالم الغيب والعالم المادّي المحسوس؟ وإذا كانت هناك علاقة، فهل هناك موجود غير محسوس خالق للعالم المادّي؟
هل ينحصر ويتحدّد وجود الإنسان بهذا البدن المادّي؟ وهل تتجدّد حياته بهذه الحياة الدنيويّة؟ أم هناك حياة أخرى؟ وإذا كانت هناك حياة أخرى، فهل هناك علاقة وارتباط بين الحياة الدنيوية والحياة الأخروية؟ وإذا وجدت العلاقة، فما هي الظواهر الدنيويّة التي لها تأثيرها في الأمور الأخروية؟ وما هو السبيل لمعرفة النظام الصحيح للحياة؟ النظام الذي يكفل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة؟ وأخيراً، ما هو هذا النظام؟

إذن فغريزة (حبّ الاستطلاع) تمثل الدافع الأول الذي يدفع الإنسان للبحث عن كل المسائل والقضايا، ومن جملتها، المسائل الدينية، ومعرفة الدين الحق.
الدافع الثاني: الذي يشدّد من رغبة الإنسان في معرفة الحقائق: أنّ إرضاء سائر الحاجات التي يتعلّق كل منها بدافع أو أكثر من الدوافع الفطرية (غير حب الاستطلاع) وإشباعها لا يتحقّق إلاّ بالحصول على معلومات ومدركات معيّنة، فالتوفر على النعم والمصالح المادية الدنيوية المختلفة رهين بالجهود العملية، وتقدم العلوم التجريبية يساعد الإنسان كثيراً عل إرضاء حاجاته، فإن أمكن للدين أيضاً أن يساعد الإنسان على إشباع حاجاته، توفير المنافع والمصالح التي ينشدها، والأمن من المضار والأخطار التي تهدّده، فسيكون الدين من المجالات التي ينشدها، الإنسان وبذلك تكون غريزة البحث عن المنفعة، والأمن من الضرر والخطر، دافعاً آخر للبحث عن الدين.

ولكن بما أنّ المعلومات في هذا المجال كثيرة جدًّا، ولا تتوفر الشروط والظروف الكافية لمعرفة الحقائق كلها، فمن الممكن للإنسان أن يختار لبحثه مسائل وقضايا أيسر علاجاً من غيرها، وأكثر إحساساً بنتائجها الملموسة، وأقرب طريقاً في الوصول إلى أهدافه المنشودة، وأن يتجنّب البحث عن المسائل الدينية باعتقاد أنّها معقدة، يصعب علاجها أو أنّها تفتقد النتائج العملية الملموسة ومن هنا لابد أن نوضح بأنّ للمسائل الدينية أهمية خاصة بل إنّ البحث عن أي موضوع آخر؛ لا يملك القيمة والأهمية التي ملكها البحث عن المواضيع الدينية.
والملاحظ أنّ بعض علماء نفس والمحللين النفسيين يعتقد، بأنّ لعبادة الله والتديّن في واقعه دافعاً فطرياً مستقلاً، يعتبر عن مصدره بـ "الشعور الديني" ويعتبره بعداً رابعاً للروح الإنسانية بالإضافة إلى حب الاستطلاع، والشعور بالخير، والشعور بالجمال.
أنّ هؤلاء، واستناداً لشواهد التاريخ، وعلم الآثار والمخلفات القديمة يرون بأنّ التديّن وعبادة الله، ظاهرة ثابتة، بشكل من الأشكال، في كل الأجيال البشرية على امتداد التاريخ، وهذا الثبات والشمولية لهذه الظاهرة، دليل على فطريّتها.

ولا يعني شمولية الدافع الفطري، وجوده حيّاً يقظاً دائماً في جميع الأفراد، بحيث يدفع الإنسان شعوريّاً لأهدافه المنشودة، بل من الممكن أن يكمن ويختفي في أعماق الفرد، نتيجة لعوامل محيطيّة وتربوية غير سليمة، أو أنّه ينحرف عن مساره الصحيح، كما هو الملاحظ في سائر الغرائز والميول، حيث تتعرض للكمون والاختفاء والانحراف قليلاً أو كثيراً .
وعلى ضوء هذا الرأي، فإنّ للبحث عن الدين دافعه الفطري المستقل، ولا نحتاج لإثبات ضرورته إلى دليل أو برهان.
ويمكن دعم هذا الرأي، بشواهد وأدله كم الآيات والروايات المتعلقه بفطرية الدين، ولكن تأثير هذا الميل الفطري ليس شعورياً، فيمكن لأحد أن ينكر وجود مثل هذا الدافع في نفسه، عند الجدال، وذلك لا نعتمد على هذا الرأي، ونبحث عن أهمية البحث عن الدين، من خلال الدليل العقلي.


أهمية البحث عن الدين

أتضح مما سبق، أنّ الدافع الفطري لمعرفة الحقائق من جانب، والرغبة في الوصول إلى المنافع والمصالح، والأمن من الضرر والخطورة من جانب أخر، يشكلان دافعاً قوياً للإنسان، للتأمل في المعلومات والإراء المكتسبة وتحصيلها، وعلى ضوئه، حين يعلم شخص بوجود أفراد كبار على امتداد التاريخ ادعوا بأنّهم مبعوثون من خالق الكون لهداية البشر لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد بذلوا أقصى جهودهم في سبيل إبلاغ رسالاتهم، وهداية البشر، وتحملوا كل ألوان المتاعب والتحديات، بل ضحوا بأرواحهم في سبيل هذا الهدف، فإنّ هذا الشخص بدفع من ذلك الدافع الفطريّ، يتحرك للبحث عن الدين، ليرى مدى صحّة دعوى الأنبياء، وهل توجد أدلة منطقية كافية على صحّة دعاواهم، وخاصةً حين يعلم بأنّ دعوتهم ورسالتهم تتضمّن البشارة بالسعادة والنعمة الأبديّة، والإنذار بالشقاء والعذاب الأبدي، أي أنّ الإيمان بدعوتهم يتضمن المنافع المحتملة اللانهائية، وأنّ عصيانهم تتعقبه الأضرار والأخطار المحتملة اللانهائية، فلا يبقى أي مبرر لمثل هذا الشخص في عدم الاهتمام بالدين، وفي موقف اللامبالاة من محاولة البحث عنه؟
أجل.. من الممكن أن يتجنب البعض البحث عن الدين، للكسل وحبّ الارتخاء والراحة، أو لأنّ الإيمان بالدين يفرض عليهم الكثير من الضوابط والحدود، ويمنعهم من بعض الممارسات، التي ترغب بها نفوسهم.


ولكن على هؤلاء أن يتقبلوا الآثار السيّئة لهذا الكسل والخمول والغرور، وما يعقبها بعد ذلك من العذاب الأبديّ والشقاء الدائم.
إنّ هؤلاء أكثر تعاسة وحماقة من ذلك الطفل المريض الجاهل، الذي يمتنع عن الذهاب إلى الطبيب خوفاً من استعمال الدواء المر ويستعد للقاء حتفه، وذلك لأنّ هذا الطفل لم يبلغ مرحلة من الوعي يحدد بها ما ينفعه وما يضرّه، بالإضافة إلى أنّ مخالفة توصيات الطبيب لا يترتّب عليها إلاّ الحرمان من منافع أيام قليلة من الحياة الدنيوية، بينما الإنسان البالغ العاقل له القدرة على التفكير فيما ينفعه ويضرّه، والموازنة بين اللذائذ الموقّتة، والعذاب الأبدي.
ومن هنا اعتبر القرآن الكريم أمثال هؤلاء الغافلين أضل من الأنعام (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/179) وفي آية أخرى يقول: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (الأنفال/22).


الجواب عن شبهة
ربما يتشبت البعض للتهرب من التفكير والبحث عن الدين بهذه الحجة: إنّما يستحسن بذل الجهد والبحث عن قضية ومحاولة علاجها؛ فيما لو كان الإنسان يأمل في العلاج، خيراً، ويحتمل التوصل من خلال جهوده إلى الحلّ، ولكن ليس لنا مثل هذا الأمل والاحتمال في البحث عن الدين ومسائله، ومن هنا فالأفضل أن نبذل جهودنا وطاقاتنا في الأعمال التي نحتمل ونأمل أكثر في التوصل إلى نتائجها.


ونجيب هؤلاء:
أولاً: إنّ الأمل في معالجة المسائل الدينية واحتمالها ليس بأقل من الاحتمال في معالجة المسائل العلميّة؛ ونحن نعلم بأنّ معالجة الكثير من المسائل والقضايا العلميّة إنما أمكن التوصل إليها نتيجة عشرات السنين من الجهود المضنية التي بذلها العلماء في هذا المجال.
وثانياً: إنّ قيمة الاحتمال لا تخضع لعامل واحد وهو "درجة الاحتمال" وحسب، بل لابد أن نلاحظ أيضاً "درجة المحتمل"، فمثلاً لو كان احتمال الربح في عمل اقتصادي 5% وفي عمل آخر 10%، ولكن مقدار الربح المحتمل الذي يدره العمل الأول ألف ريال، وفي العمل الثاني مئة ريال فإنّ العمل الأول يرجح على العمل الثاني بخمسة أضعاف، مع أنّ درجة الاحتمال فيه (5%) وهو نصف درجة الاحتمال في العمل الثاني (10%) كل ذلك لأهمية المحتمل وقيمته.
وبما أنّ المنفعة المحتملة التي تتمثل في البحث عن الدين لا نهائية، ولذلك، وإن كان احتمال التوصل إلى نتيجة يقينية منه ضعيفاً جداً، ولكن بالرغم من ضعف احتمال التوصل إلى نتيجة، فإنّ قيمة البحث عن بذل الجهد في هذا السبيل وأهميتها، تفوق بكثير قيمة البحث في أي طريق آخر له نتيجة محدودة وضيقة، وإنما يتقبل العقل تجنب البحث عن الدين، فيما لو جزمنا بأنّ الدين باطل وغير صحيح، أو أنّ مسائلة لا تقبل الحل والعلاج، ولكن ليس هناك سبيل لهذا الجزم والاطمئنان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة