من التاريخ

إسماعيل (عليه السلام) وكنعان- الطاعة والعصيان


الشهيد مرتضى مطهري ..

هذان نموذجان قرآنيان متقابلان آخران يقفان على طرفي نقيض وهما: (إسماعيل) (عليه السلام) ابن النبيّ إبراهيم (عليه السلام) و (كنعان) ابن النبيّ نوح (عليه السلام).
المشهد الأوّل: دعوة للهلاك: في هذا المشهد نرى إبراهيم (عليه السلام) وقد أراد تنفيذ الرؤيا التي رآها في منامه وهو يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء (عليهم السلام) كما هو معلوم وحي، فماذا دار بينهما من حوار؟ إبراهيم (عليه السلام): ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ (الصافات/102)، إسماعيل (عليه السلام): ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات/102).
المشهد الثاني: دعوة للنجاة: وفي مقابل هذا المشهد، هناك مشهد آخر مغاير تماماً، نرى فيه نوحاً (عليه السلام) وقد اكتسح الطوفان الأرض يدعو ابنه إلى الركوب في السفينة حتى لا يتعرّض إلى الغرق والهلاك، فيأبى الابن ويرفض الدعوة متذرعاً بأنّه قادر على الحصول على النجاة بالصعود إلى قمّة الجبل، وهذا هو نصّ الحوار: نوح (عليه السلام): ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾ (هود/42). كنعان: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾ (هود/43). نوح (عليه السلام): ﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ (هود/43) ويسدل الستار على المشهد بهذه اللقطة: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ (هود/43).

مقارنة بين المشهدين:
1- في المشهد الأوّل دعوة من الأب إلى ابنه لعملية ذبح، يذبحُ فيها الأب ابنه الحبيب العزيز، الغلام الحليم، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى. وفي المشهد الثاني، دعوة من الأب إلى ابنه إلى النجاة والحياة.
2- في المشهد الأوّل استجابة فورية- من الابن المطيع- بلا تردّد لتنفيذ إرادة الله. وفي المشهد الثاني عزوف وإعراض وإشاحة وكلام جاف من قِبل الابن الضالّ.
3- في المشهد الأوّل انقلاب في الموقف حيث ينجو (إسماعيل) الممتثل لطاعة الله سبحانه وتعالى، بأن يفتديه أبوه بكبش بناء على طلب الله عزّ وجلّ. وفي المشهد الثاني انقلاب في الموقف أيضاً حيث يموت (كنعان) العاصي العاق الذي تصوّر أنّه في غنى عن السفينة التي تمثلُ النجاة، وأنّ الجبل سيكفل له السلامة من الغرق، رغم تحذيرات الأب أنّ النجاة في (السفينة) وليست في (الجبل) لكنّه أصرّ على موقفه المعاند.

دروس القصتين:
1- إسماعيل (عليه السلام) كما يصفه القرآن (غلام حليم) وكان أبوه إبراهيم (عليه السلام) قد طلب من الله أن يرزقه الولد الصالح ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (الصافات/100) فكان ابناً صالحاً وحليماً ومطيعاً لله وبارّاً بأبيه، وكما هو واضح فإسماعيل نموذج إيجابي للابن البارّ المطيع، أمّا (كنعان) فقد عبّر عنه القرآن بأ نّه (عملٌ غير صالح) وذلك حينما استوضح نوح (عليه السلام) من ربّه عن سبب هلاك ابنه باعتباره من أهله الذين وعد الله بنجاتهم، فجاءه النداء: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ لأنّه عاص متكبّر مغرور وعاق لوالده، ولذا فنحن أمام نموذجين للأبناء: صالح يمثله إسماعيل (عليه السلام) وغير صالح يمثله (كنعان)، ومعيار الصلاح وعدمه هو (الطاعة لله) و(برّ الوالدين).(1)
2- الطاعة في المشهد الأوّل طاعة لله تبارك وتعالى، وإعانة للأب على هذه الطاعة، وهي من أجمل وأعظم صور الطاعة، كما أنّها إطاعة للنبي المأمور من قِبل الله، والمعصية في المشهد الثاني معصية لله ومعصية للرسول، فنوح لم يكن أباً لكنعان فقط، وإنّما رسوله ونبيّهُ، علاوة على أنّه عقوق للأب الشفيق الحاني.
3- نتيجة الطاعة في المشهد الأوّل (النجاة) و (النجاح) والمثل الإيجابيّ الخالد، ونتيجة المعصية في المشهد الثاني (الهلاك) و (الخيبة) والمثل السلبيّ السيِّئ.
4- أبناء المؤمنين الصالحين يجدر بهم أن يكونوا مؤمنين صالحين أيضاً لا بالتبعية والإلحاق، وإنّما لأنّهم ينشأون في وسط أسرة صالحة مباركة، ولذا فالمرجوّ منهم أن يكونوا نواة لمجتمع صالح، وكلّما احترموا موقع آبائهم في المجتمع فكانوا مثلهم أو أكثر في إيمانهم ونُبل أخلاقهم وصلاح أعمالهم، كان ذلك أدعى إلى اعتبار الأسرة مثلاً يقتدى، أمّا أبناء المؤمنين الذين ينحرفون عن خط الصلاح، فهم يسيئون مرّتين، مرّةً إلى أنفسهم باختيارهم الطريق الأعوج المنحرف، ومرّة إلى آبائهم، فمن عادة الناس أن يقرنوا بين الأبناء وآبائهم.


التطبيقات العملية للقصتين:
الأب الذي يدعو ابنه إلى المساهمة معه في مشروع خيريّ، أو كفالة يتيم، أو إعانة عوائل محتاجة، أو بناء مدرسة أو مسجد، فيبذل من ماله وجهده لذلك، وهو قادر على ذلك، يقدّم صورة مصغّرة لطاعة إسماعيل لأبيه، والشاب الذي تقتضيه دواعي الجهاد في سبيل الله أن يستمع إلى دعوة أبيه للتضحية من أجل كرامة أمته وخلاصها من نير الظلم والعدوان، وتحقيق العدالة للمظلومين، هو كإسماعيل في استجابته للذبح.
والفتاة التي تدعوها أمّها إلى التزام الستر الشرعي والعفاف، وأن تكون مثالاً للفتاة النجيبة المحتشمة المحترمة، فإنّها إنّما تستجيب لنداء ربّها من خلال دعوة أمّها بالانضباط بالضوابط الإيمانية والأخلاقية، وهي كإسماعيل في استجابته لأمر الله من خلال دعوة أبيه.
أمّا الفتاة المتهتكة التي تسلك في طرق الخلاعة والميوعة وإظهار الزينة والغنج والخضوع في الكلام، التي تدعوها أمّها إلى ترك هذا الاستهتار وهذا الخوض مع الخائضات في إثارة الفتن بين الشبان، ثمّ لا تستجيب لندائها فإنّها كابن نوح الذي رفض ركوب سفينة النجاة، ثمّ ماذا كان مصيره ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ (هود/43).
والشاب الذي يدعوه أبوه للصلاة فلا يصلّي، وإلى الصيام فيتهرّب منه، وإلى حضور مجالس الوعظ والإرشاد فيفرّ منها، وإلى التعاون على البرّ والتقوى فلا يمدّ يداً ولا يقدّم عوناً، بل يسخر من أبيه لأنّه دعاه إلى ذلك أو إلى إصلاح عيوبه واجتناب المعاصي والمنكرات، هو أيضاً مثلُ (كنعان) السادر في غيّه، قد لا يغرقه موج الطوفان لكنّه سيغرق حتماً في لجج الذنوب والعصيان، وتيار الظلم والانحراف فيكون من المغرقين.
____________________________________
(1) ينبغي الإشارة إلى أن أروع وأعلى درجات البرّ بالوالدين هي اطاعتهما فيما يرشدان إلى طاعة الله، فهو برّ بهما وبالغسلام الذي يدينان به ويريدان لأولادهما وبناتهما أن يدينوا به أيضاً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة