من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

ويسألونك عن ذي القرنين‏


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي‏ ..

كثُر الحديث بين المفسِّرين في هوية ذي القرنين الواردة في القرآن الكريم من منظار التاريخ، وحول من تنطبق عليه من الشخصيات التاريخية، حيث اختلفت وجهات نظرهم في ذلك. ويمكن اختزال أهمّها في ثلاث نظريات هي:


* النظرية الأولى‏
يعتقد بعضهم أنَّه ليس إلّا الإسكندر المقدوني، لذا سمّوه الإسكندر ذا القرنين، ويذكرون أنّه سيطر بعد موت أبيه على بلاد الروم والمغرب ومصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ثمَّ سيطر على الشام وبيت المقدس، ومن هناك توجه نحو أرمينية حيث فتح في طريقه العراق، ثمَّ مرض في مدينة (زور) ومات فيها، ولم يتجاوز عمره، على قول بعضهم، ستة وثلاثين‏
عاماً، ونقل جثمانه إلى الإسكندريّة حيث دفن هناك. (1)


* النظرية الثانية
يعتقد جمع من المؤرخين أنّ ذا القرنين هو أحد ملوك اليمن، وكان يُطلق على ملوكهم لقب (تبّع) وجمعها تبابعة [ (الأصمعي) في (تاريخ العرب قبل الإسلام) و (ابن هشام) في تاريخه المعروف باسم (السيرة) و (أبو الريحان البيروني) في (الآثار الباقية)].
بل تلمح في أشعار الحميريين وهم أقوام من اليمن وبعض شعراء الجاهلية تفاخرهم بذي القرنين. (2)
بناء على هذه الفرضية فإنّ ذا القرنين بنى السد المعروف ب- (مأرب).


* النظرية الثالثة
وتعتبر من أحدث النظريات في هذا المجال وقد طرحها العالم الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي كان وزير الثقافة في الهند، حيث أورد نظريته في كتابه التحقيقي، (3) وبناء عليها فإن ذا القرنين هو نفسه كوروش الكبير الملك الهخامنشي.
وبما أنَّ النظريتين الأولى والثانية لا تستندان إلى وثيقة تاريخيَّة معروفة تقريباً، بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الإسكندر المقدوني لم يكن يتَّصف بالصفات التي أوردها القرآن الكريم لذي القرنين، ولم يتمتع بها أيٌّ من ملوك اليمن.
كما أنَّ الإسكندر المقدوني لم يبن سدّاً معروفاً، أمّا سدّ مأرب في اليمن فهو سدّ لا يتوافق مع سدّ ذي القرنين كما ورد في القرآن الكريم الذي بني من الحديد والنحاس لمنع حملات الأقوام البربرية الوحشية، في حين أنَّ سدَّ مأرب كان من الصروح الرائجة وقد أنشئ بهدف جمع الماء خلفه، ومنع طغيان الماء وفيضانه. وقد ورد ذكره مفصلًا في سورة سبأ.


لذلك فإنّنا سوف نركِّز بحثنا حول النظرية الثالثة. وهنا من اللازم علينا أن نلفت الانتباه إلى عدة نقاط هي:
أ- أوّل ما يلفت النظر في هذا الموضوع هذا السؤال: لِمَ سُمِّي ذو القرنين بهذا الاسم؟
يعتقد بعضهم أنّه أطلق عليه ذلك لأنّه وصل إلى شرق العالم وغربه، ويعبّر العرب عن ذلك بقرني الشمس. ويرى بعضهم الآخر أنَّ السبب يعود لأنّه حكم قرنين من الزمان، وقد ظهرت نظريات مختلفة حول مقدار القرن.
ويقول آخرون إنّه كان يوجد على جانبي رأسه نتوءان خاصان سمي بهما ذا القرنين.
وأخيراً يعتقد بعضهم أنّه كان يضع على رأسه تاجاً على جانبيه قرنان.
وهناك آراء أخرى يؤدِّي ذكرها إلى إطالة البحث. وسوف نلاحظ أنَّ مبتكر النظرية الثالثة أي (أبو الكلام آزاد) استفاد من هذا اللقب كثيراً في إثبات نظريته.


ب- يستفاد من القرآن الكريم أنَّ ذا القرنين كان يتمتَّع بصفات استثنائية منها:
1- إنَّ الله هيّأ أسباب النصر بين يديه.
2- إنّه قام بثلاث حملات هامّة أولاها نحو الغرب، والثانية نحو الشرق، والأخيرة نحو منطقة تضمّ مضيقاً جبلياً، وصادف أثناء أسفاره أقواماً متعددين ورد ذكر صفاتهم في تفسير الآيات.
3- إنّ ذا القرنين كان مؤمناً موحِّداً وشفيقاً ورحيماً، لم ينحرف عن جادة العدل والصواب، فكان مؤيَّداً بالألطاف الإلهية الخاصة، وكان عوناً للمحسنين وخصماً للظالمين والمستبدين، ولم يكن متعلقاً بأي مال أو ثروة في الدنيا.
4- كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر.
5- شيَّد أعظم وأهم السدود، واستخدم في بنائه الحديد والنحاس بدل الحجارة واللبن.
كان اسمه قبل نزول القرآن معروفاً بين مجموعة من الأقوام والناس، لذا سألت قريش أو اليهود رسول الله (ص) عنه كما ذكر القرآن الكريم وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ.
وقد نقل في كثير من الروايات الإسلامية عن رسول الله (ص) وأئمّة أهل البيت (ع) أنه لم يكن نبياً، بل كان عبداً صالحاً. (4)


ج- أصل القول الثالث (في أنَّ ذا القرنين هو كوروش الكبير) قائم على مبدأين:
الأوّل: إنّ من سأل رسول الله (ص) حول هذا الموضوع، بناء على الروايات التي جاءت في شأن نزول هذه الآيات، كانوا يهوداً أو كانوا من قريش بتحريض من اليهود، ولذا يجب البحث عن أصل هذا الموضوع في كتب اليهود، ومن كتبهم المعروفة كتاب (دانيال). (5)
ومما يلفت الانتباه أنّه يعبر في بعض تعابير التوراة عن كوروش بعقاب المشرق، والرجل الحكيم. (6)

الثاني: في القرن التاسع عشر الميلادي وقرب مدينة (اصطخر) بجوار نهر (مورغاب)، تم اكتشاف تمثال ل- (كوروش) بطول إنسان كامل، حيث يظهر وقد برز منه جناحان مثل جناحي العقاب، وعلى رأسه تاج له قرنان كقرني الكبش. ويعتبر هذا التمثال نموذجاً قيِّماً لفن النحت القديم، جلب اهتمام العلماء، بحيث قامت مجموعة من العلماء الألمان بالسفر إلى إيران بغرض معاينة هذا التمثال. وبتطبيق ما ذكر من علامات هذا التمثال مع ما ورد في التوراة، يصبح احتمال ذلك العالم في نظريته قوياً، بحيث يعلم مصدر استفادته إطلاق اسم كوروش على ذي القرنين، كما يعلم سبب وجود أجنحة كأجنحة العقاب لتمثال كوروش.


وهكذا فقد أصبح من المسلَّم به عند مجموعة من العلماء، حقيقة الهوية التاريخية لذي القرنين عبر هذه الوسيلة، وما يؤيد هذه النظرية هي الصفات الأخلاقية التي سجلت لكوروش في التاريخ.
يقول المؤرخ اليوناني (هيرودوت) ما يلي:
 «لقد أمر كوروش ألّا تسلّ السيوف إلّا في وجه المقاتلين، وكل مقاتل عدو ينزل قناته ويرمي به لا يقتل، وقد أطاع جيش كوروش أوامره، بحيث لم يشعر عامة الشعب بآلام الحرب ومصائبها». وكذلك كتب (هيرودوت) حوله: «لقد كان كوروش ملكاً كريماً سخياً وعطوفاً، لم يكن حريصاً على جمع الأموال كباقي الملوك، بل كان يحب الأمور التي تخطى بالخير الوفير» وكذلك مؤرخ آخر (ذي نوفن) يقول ما يلي:
 «كان كوروش ملكاً عاقلًا وعطوفاً، جمعت‏ فيه أبهة الملوك وفضائل الحكماء، صاحب همة عالية وشخصية آسرة، شعاره خدمة الإنسانية، وخلقه نشر العدل، قد حلّ التواضع والسماحة في وجوده محل الكبر والعجب».
ومن اللافت هنا أنَّ المؤرخين الذين وصفوا كوروش بهذا الوصف كانوا من المؤرِّخين الأغراب لا من أبناء وطن ذلك الملك، حيث كانوا من أهل اليونان، ونعلم أنّهم لم يكونوا ينظرون بعين الصداقة إلى كوروش لفتحه (ليديا) الذي يعد هزيمة كبرى لشعب اليونان.
ويقول مؤيدو هذه الفكرة إنّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول ذي القرنين تنطبق مع الأوصاف المذكورة لكوروش.


* أسفار كوروش‏
وقد كانت لكوروش أسفار إلى شرق العالم وغربه وشماله، تمَّت الإشارة إليها بالتفصيل في سيرته. ويمكن مطابقة الأسفار الثلاثة لذي القرنين التي وردت في القرآن الكريم مع هذه الأسفار:
أوّل حملة لكوروش كانت على بلاد (ليديا) في القسم الشمالي من آسيا الصغرى. وكانت هذه البلاد تقع في الناحية الغربية بالنسبة إلى مركز دولة كوروش. وعندما نضع خريطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا نلاحظ القسم الأعظم من الساحل غارقاً في خلجان صغيرة، لا سيما في القرب من (أزمير) التي يأخذ الخليج فيها شكل عين.
ويذكر القرآن الكريم أنّ ذا القرنين في سفره الغربي رأى بأنّ الشمس تغرق في عين حمئة، وهذا المنظر هو نفسه الذي رآه كوروش أثناء غروب قرص الشمس في الخلجان الساحلية.
أمّا الحملة الثانية لكوروش فكانت إلى الجهة الشرقية، حيث يقول هيرودوت: «تمّ الهجوم الشرقي لكوروش بعد فتح (ليديا) لا سيّما بعد عصيان وتمرد بعض القبائل البربرية البدائية التي دفعت كوروش للقيام بهذه الحملة».
يقول القرآن الكريم: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً. (الكهف: 90)
أمّا الحملة الثالثة لكوروش فكانت باتجاه الشمال نحو جبال القوقاز، حيث بلغ مضيقاً بين جبلين شيّد عنده سداً محكماً لمنع هجوم الأقوام‏ البدائية البربرية بطلب من الأقوام التي كانت تعيش مقابل هذا المضيق.
هذا كان خلاصة ما يقوِّي النظرية الثالثة. (7)
على الرغم من وجود نقاط مبهمة في هذه النظرية، ولكن حالياً يمكن أن تكون هذه النظرية الأفضل فيما يتعلق بانطباق شخصية ذي القرنين على إحدى الشخصيات التاريخية المعروفة.


* مكان سدّ ذي القرنين‏
على الرغم من أنَّ بعضهم يميل إلى انطباق هذا السد مع سور الصين العظيم، ولكن من الواضح أنّ سور الصين لم يبْنَ من الحديد والنحاس، ولا يقع في مضيق جبلي.
فيما يصرّ بعضهم الآخر على أنّه نفس سد مأرب الموجود في أرض اليمن، في حين أن سد مأرب بني لمنع طغيان الماء وفيضانه لغرض تخزين الماء، ومواد بنائه ليست من الحديد والنحاس.
ولكن بناءً على شهادة العلماء، فإنّه توجد جبال في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود تشكل جداراً يفصل الشمال عن الجنوب، ويوجد بينها مضيق واحد معروف ب- (مضيق داريال) ويرتفع، لحدِّ الآن، في ذلك المضيق جدار حديدي تاريخي قديم، لذا يعتقد الكثيرون أن (ذا القرنين) بنى ذلك السد هناك. ومن الطريف أنّه يوجد نهر قريب من ذلك السد باسم (نهر سائرس) بمعنى (كوروش) حيث كان اليونان يطلقون على كوروش اسم (سائرس).
يطلق علماء الآثار الأرمنية القديمة على هذا الحائط اسم (بهاك كورائي) بمعنى (مضيق كوروش) أو (معبد كوروش) وهذه وثيقة تدل على أن باني هذا السد كان (كوروش). (8)


الهوامش:

1- وقد ورد هذا المطلب في (تفسير الفخر الرازي) في ذيل الآيات مورد البحث وكذلك الكامل لابن الأثير، ج 1، ص 287، ويعتقد 2- بعضهم أنّ أوّل من طرح هذه النظرية هو الشيخ أبو علي ابن سينا في كتابه (الشفاء).
3- الميزان، الطباطبائي، ج 13، ص 414.
4- وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفارسية وسُمّي باسم «ذو القرنين أو كوروش الكبير». وكثير من المؤرخين المعاصرين أوردوا هذه النظرية في كتبهم بلحن يغلب عليه التصديق.
5- تفسير نور الثقلين، الحويزي ج 3، ص 294- 295.
6- كتاب دانيال الفصل الثامن العبارات 1- 4.
7- كتاب أشعيا، الفصل 46، الرقم 11.
8- للتوضيح أكثر راجع كتاب (ذو القرنين أو كوروش الكبير) وكذلك كتاب (ثقافة القصص القرآنية).
9- للتوضيح أكثر راجع كتاب (ذو القرنين أو كوروش الكبير) وكذلك (ثقافة القصص القرآنيّة).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة