مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ رضا الصغير
عن الكاتب :
طالب علوم دينية في حوزة قم المقدسة

الحساسية المفرطة


الشيخ رضا الصغير ..

يعيش بعض الأشخاص عقلية (كونان) التحقيقية، فتراهم يهتمون بدقائق الأمور، ولكل شيء عندهم مغزى، وخيط له طرف في كل قضية، بل لا يكاد يكون عندهم أمرٌ عفوي، وليس عندهم فعل صادر من سجية، ويقرأون النظرات، ويستمعون إلى النبضات، ولتعابير الوجه عندهم تأويلات .
إن من يعيش هذه الشخصية ويتقمص دورها، هو في هوس دائم، ونفسية قلقة مضطربة، ولا يلتذ بطعام، ولا يهنأ برقاد، ويخططون للهجوم، أو الدفاع، ولا يتحملون الكبت والكتمان، فعندهم هذا خطرٌ ويجب دفعه مهما كان، فيخبرون هذا وذاك، هل رأيت فلان؟!
هل أصغيت لقوله؟! ماذا يقصد ب (...) ؟ لماذا من عندما دخلنا (فلان) قام؟!
ربما لا يخلو أحدنا من تجربة سابقة، وموقف من المواقف، وقد تكون هناك مناسبات مختلفة قد تكون لها مدخلية في صحة هذه الاستفهامات، والكثير الكثير يكون رجماً بالغيب، وسوء ظن بالآخرين .
هذه الشخصية ممقوتة من الشرع ومن المجتمع، ومن الأسرة الكبيرة أو الصغيرة، وقد ورد في النصوص الشرعية ما يمقت هذا الفعل، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه))(1)

وأما المجتمع؛ فإن العقلاء يذمون هذه الشخصية، ولا يستطيعون التعامل معها، وقد نرى حيثيتين :

* الحيثية الأولى: أن (الشكاك) لا يمكن لأحد عقد معاملة معه، أو من يعقد معه معاملة يجد نفسه في ابتلاء عظيم، فالشكاك لا يمكن أن يعجبه شيء، وليست هنا المشكلة، فقد يكون العمل غير متقن فعلاً، أو به خلل وعيب، لكن المشكلة، هي نسبة التآمر للعامل، أو التخاذل، (لو كان يعمل عند فلان لأتقن) (إنما خرّب عمله لقلة البذل) (إنما خرب عمله لينال مني قسطاً من المال)، وهذه الكلمات قد تكون موجهة للأجير مباشرة، أو تكون على سبيل الإخبار، وقد يحصل الخلاف والنزاع، نعم، قد تكون الاحتمالات المتقدمة واردة، لكن بالتالي عند من هو مخلص في عمله هذه الشخصية ممقوتة وغير مفضلة في التعامل.

*  الحيثية الثانية: (الشكاك) دائم الشكوى، وكثير الكلام، ويخترع القصص و (الأفلام) ويحكم حتى على الأحلام، والتهمة حاضرة لكل موقف، فمن يجتمع معهم ويرافقهم يشعرون معه بالاختناق، حتى لو كانوا بنفس المزاج ونفس الأخلاق .

وأما بالنسبة للأسرة؛ فواضح أن هذه الشخصية تجعل الأجواء العائلية محمومة جداً، وتأجج الخلافات، ولا يمكن علاج أي مشكلة، ولا نسيان ما فات، بل إن كل مشكلةٍ وقع فيها أي فردٍ من الأفراد هي بمثابة البذرة، التي تثمر كل حين، فمهما حدث فإن فاعلها معروف، والدليل موجود، ولو قبل (عشرين سنة) ((إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)) (2)، وحتى في الأسرة الصغيرة، فالخلافات لا تنتهي، والتجريح والطعن والتعدي، فإما البغض الشديد أو الطلاق .

هذه الشخصية الممقوتة لم تخلق هكذا، ولم تكن بهذه الشدة منذ الصغر، إنما هي تزداد وتتفاقم، بحسب عوامل عدة :
- الجو العائلي؛ فكلما كان الجو العائلي قائماً على هذه الآلية من العيش، اكتسب الابن ذلك وربما طوره، وابتكر له أساليب جديدة بفعل القوة الواهمة .
- المدرسة؛ لا يختلف الحال عن العائلة كثيراً مع إضافة بعض التجارب، حيث ربما يوقع تلميذ التهمة على آخر خوفاً من استحقاقه للعقوبة، فيأخذها كتجربة سلبية، تجعله حذراً وخائفاً ومخوِناً للآخرين، حتى يتحول إلى ( الشكاك )
- البيئة والمجتمع؛ التجارب تتسع، والخبرات تتراكم، ويكون الأمر أشد قسوةً، وأكثر مرارةً، ولم يبق على مدى التهمة والعقوبة، بل ربما على نحو النصب، والاحتيال.
- برامج الغزو الفكري؛ بشتى أنواع الوسائل (الكتب، الروايات، المسلسلات، الأفلام، الاحتكاك بالثقافات الأخرى) التي تنقل هذه العقلية، والنفسية، وربما زينتها وأبدتها بصورة حسنة لائقة، تبين الشخصية بأنها ذات عقلية جبارة، وحس دقيق، وحاسة سادسة لا تقهر .
- ربما هناك عوامل أخرى كثيرة لها المساهمة في تنشئة هذه النفسية وتطورها.
إذا عرفنا مما تقدم أن هذه الشخصية (ممقوتة) وعرفنا كذلك أسباب تنشئتها، فهل هي ممقوتة على كل حال؟!

وكيف يمكن علاجها؟
لا شك أن المؤمن "كيّس فطن" (3)، وأن المؤمن "لا يلدغ المرء من جحر مرتين" (4)، فالتجربة توقظ الإنسان من غفلته، والحذر منهجه، خصوصاً في زمن بات فيه الناس قانونهم شرعة الغاب، حيث أن المغفلين لا يحميهم القانون، ولا يعني ذلك أن الحذر لا يكون إلا بالتجربة، فيكفي السماع والوعي والاطلاع، ويبقى أن ترتيب الآثار، هو المحذور، وهو المبغوض، فإن ظننت أن من يواجهك (سارق) فضع يدك على جيبك، واحفظ نقودك، ولا داعي للصراخ والاتهام،
وحاول أن تذكر نفسك أن الشكوى لا يطيقها إنس ولا جان، اجعل نفسك قانعاً، وكلما كنت صامتاً ازداد مقامك بين الناس، لا تتكلم ابتداءً، ولا تبدي أحكامك، إلا من حيث المشورة والأخوة وادرس قبولهم لرأيك، ولا توجه الانتقاد بالقسوة ولذع اللسان، ونبههم بصورة اللين، وتوقعات الاحتمال .

وأما في زمان العدل، فطهر قلبك ولا تظن بأحد سوءً، وإذا رأيت في يد أخيك مالاً، فلا تقل مال مسروق، وقل أمانة أو مال مرهون، وإن لم ينفع قولك، فاحمله على الخير فأمامك من المحامل سبعون .
إن هذا صعب ! أليس كذلك؟!
 التقوى، ومراعاة النفس، وضبط والهوى، وبالجد والاجتهاد تتمكن من ذلك وتتخلص من كل هذه الآفات، وبهدي الأئمة الهداة تستعين، وبمراقبةٍ، ومحاسبةٍ، وتوبةٍ ببكاء الفاقدين، ووعدٍ صادقٍ، ويقين، يهون الأمر، هذا من جهاد النفس، الجهاد الأكبر!
ـــــــــــ
(1) الحجرات 12
(2) يوسف 77
(3) شرح شهاب الأخبار: ٤٦ ح ١١١
(4) جامع الأحاديث للقمي: ١٣١

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة