من التاريخ

الفقيه المحقّق الشّيخ نصير الدِّين الطُّوسيّ


المؤرخ السيد حسن الأمين ..

* هو محمّد بن محمّد بن الحسن الطّوسيّ، الفقيه والفيلسوف والطّبيب والعالم الفلكيّ المشتَهر بـ «نصير الدّين الطّوسيّ».
* وُلد في مدينة طوس، شمال شرق إيران، سنة 597 هجريّة، وتوفّي ببغداد سنة 672 هجريّة، ودُفن في مقام الإمامَين الكاظمَين عليهما السّلام.
* كان والده محمّد بن الحسن من الفقهاء والمحدِّثين، فتربّى في حِجره، ونشأ على يده.
* قال عنه تلميذه العلّامة الحلّيّ: «كان أفضلَ أهل زمانه في العلوم العقليّة والنّقليّة، وكان أشرفَ من شاهدناه في الأخلاق».
* حوّلَ هزيمةَ العالم الإسلاميّ أمام غزو المغول إلى عمليّة إنقاذ واسعة، فنجح في إعادة تشييد صروح العلم، وهداية المغول إلى نور الإسلام.

بعد أن ألمّ الشّيخ نصير الدّين الطّوسيّ بعلوم اللّغة والأدب، تحوّل إلى دراسة الفقه، والمنطق، والحكمة، والرّياضيّات، فأخذ عن والده، وحضر مدّةً دروسَ خاله «نور الدّين، عليّ بن محمّد» في مقدّمات المنطق والحكمة، ودرسَ مقدّمات في الرّياضيّات عند «كمال الدّين، محمّد الحاسب»، ثمّ رحل إلى مدينة «نيسابور» الّتي كانت مركزاً علميّاً مهمّاً، ومكث فيها مدّة يختلف إلى مجالس فقهائها وحكمائها، حتّى صار في عنفوان شبابه بارعاً ضليعاً في أكثر الفنون والعلوم.
ويبدو أنّه رحل عن تلك الدّيار قبل أن تتعرّض نيسابور لحملة جيش المغول الّذي ألحق بها الهلاك والدّمار، فسافر إلى مدينة «الرّيّ»، ومنها توجّه إلى بغداد والموصل، حيث حضر مجالس كبار العلماء، ومنهم «سالم بن بدران المصريّ»، الّذي كان يُعَدّ من كبار فقهاء المسلمين الشّيعة، ونال منه إجازة، ثمّ عاد إلى وطنه. وقيل إنّه قرأ أيضاً على ابن إدريس الحلّيّ، صاحب كتاب (السّرائر).


من أشهر تلامذته:
1) العلّامة الحلّيّ، الحسن بن يوسف، له (تذكرة الفقهاء)، وهو من أشهر علماء الإماميّة على الإطلاق.
2) ابن ميثم البحرانيّ، مؤلّف شرح (نهج البلاغة).
3) السّيّد عبد الكريم بن طاوس، له (فرحة الغَريّ).


نتاجه العلميّ
يُعدّ الطّوسيّ من بين الّذين اشتهروا بكثرة التّأليف والتّصنيف في مختلف العلوم والفنون المعروفة في عصره، وقد أُحصيَ له حوالي 186 مؤلّفاً ما بين كتاب، وشرح، ورسالة، منها: (شكل القطاع) يقال له (تربيع الدّائرة)، و(تحرير أُصول أقليدس)، و(بقاء النّفس بعد بَوار البدن)، و(رسالة في الإمامة)، و(رسالة في العصمة)، و(حلّ مشكلات الإشارات والتّنبيهات) لابن سينا، و(تفسير سورة الإخلاص والمعوّذتين)، و(ديباجة الأخلاق النّاصريّة) في الأخلاق، و(تعليقة على قانون ابن سينا) في علم الطّبّ، و(الصّبح الكاذب) في الجغرافيا، و(آداب المتعلّمين) في التّربية، و(أساس الاقتباس) في المنطق، و(تجريد الاعتقاد) وهو استدلال كلاميّ على أصول الإماميّة، ومن أهمّ مؤلّفاته، وسبب التّحامل والافتراء عليه من قِبَل النّواصب، و(واقعة بغداد) في علم التّاريخ، و(جواهر الفرائد) في الفقه.
وله شعرٌ كثيرٌ بالفارسيّة والعربيّة، ومن أشعاره المتداوَلة، ما مطلعُه:
لَوْ أَنَّ عَبْداً أَتى بِالصّالحاتِ غَداً
وَوَدّ كُلَّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَوَلِي
وَصامَ ما صامَ صَوّاماً بِلا ضَجَرٍ
وَقامَ ما قامَ قَوّاماً بِلا مَلَلِ


وللشّيخ نصير الدّين اكتشافات وإسهامات بيّنة ومعترَف بها وموثّقة في مصنّفات المتأخّرين في مختلف العلوم والمعارف، نوردُ إشاراتٍ موجزة إليها:
* في الفلك: كان المفهوم السّائد هو مفهموم مركزيّة الأرض - أي أنّ الأرض هي مركز الكَون - انتَقَد الطّوسيّ هذا النّظام، وحاول إيجاد بدائل له، كما تمكّن من صياغة معادلة رياضيّة عُرِفت فيما بعد بـ «مزدوجة الطّوسيّ»، نقضت نظريّة أرسطو الّتي تنصّ على أنّ الحركة إمّا خطّيّة، وإمّا دائريّة.
* في الرّياضيّات: هو أوّل مَن كَتب في علم المُثلّثات، وجعله عِلماً مستقلّاً في الرّياضيّات، ثمّ صاغ قانون الجيب للمثلّثات المُسطّحة.
* في الفيزياء والكيمياء: أبرزُ إسهامات الطّوسيّ المعترَف بها هي في هذَين العلمَين، ومن المتسالَم عليها، حتّى في الأكاديميّات الغربيّة، أنّ الشّيخ نصير الدّين أوّل مَن برهن استحالة اختفاء المادّة، وإنّما هي تتحوّل وتتبدّل. ولقد حاول بعض العلماء الغربيّين توظيف خلاصات الطّوسيّ في هذا المجال في غير محلّها.
هذا، ونظراً إلى مكانته العلميّة، فقد تمّ تكريمه في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بإطلاق اسمه على أكبر الجامعات الّتي تدرّس علوم التّقانة، كما أنّ عالم الفلك السّوفياتيّ «نيكولاي ستيبانوفيتش» اكتشف كوكباً سنة 1979م، فأطلق عليه اسم «طوسيّ 10269»، امتناناً وتقديراً لإنجازات الشّيخ نصير الدّين. وأيضاً، أُطلق اسم «نصير الدّين» على إحدى فوّهات سطح القمر.


الطّوسيّ في قبضة المغول
كان الشّيخ نصير الدّين الطّوسيّ ضحيّةً من ضحايا الغزو المغوليّ الأوّل، حينما اجتاحت جحافل جنكيز خان (1215 - 1227 ميلاديّة) البلاد الإسلاميّة، ودمّرت ما مرّت به منها، وكان من تلك الضّحايا مدينة نيسابور، التّي كانت تعجّ بالعلماء وتزخر بالمدارس.
ولم يكتفِ المغولُ بتدمير المدينة، بل أعملوا السّيف في النّاس، فقُتِل مَن قُتِل، واستطاع الفرار مَن استطاع، وكان بين النّاجين نصير الدّين الطّوسيّ الّذي لجأ إلى قلاع الإسماعيليّة الحصينة، تلك القلاع الّتي صمدت وحدها لجنكيز خان، فظلّ حقدُ المغول مصطرماً على الإسماعيليّين إلى أن استطاعوا الثّأر منهم في عهد هولاكو، حفيد جنكيز.
ولم يكن نصير الدّين وحده هو الّذي احتَمى بهذه القلاع، بل لقد لجأ إليها كثيرٌ ممّن استطاعوا الفرار والنّجاة.
وعندما تقدّم المغول في غزوهم الثّاني، وأعاد هولاكو سيرة جدّه، كانت الحملة هذه المرّة من القوّة بحيث هابتها القلاع الإسماعيليةُ فلم تستطع لها صدّاً، ونزل الأمير الإسماعيليّ ركن الدّين خورشاه على حكم المغول، فكان حكمُهم قتلَه وقتلَ أعوانه ومَن لجأ إليه، واستثنوا من ذلك ثلاثةَ رجال كانت شهرتهم العلميّة قد بلغت هولاكو، فأمر بالإبقاء عليهم، ولم يكن هذا الإبقاء حبّاً بالعلم وتقديراً لرجاله، بل لأنّ هولاكو كان بحاجة إلى ما اختصّ به هؤلاء الثّلاثة من معارف، فاثنان منهم كانا طبيبَين، هما: موفّق الدّولة، ورئيس الدّولة، والثّالث كان مشهوراً باختصاصه في أكثر من علمٍ واحد، وهو نصير الدّين الطّوسيّ، وكان ممّا اختصّ به: علم الفلك، وكان هولاكو مقدِّراً لهذا العلم تقدير حاجة لا محضَ تقدير، مؤمناً بفائدته له..


جهاده في إعادة إحياء العلوم الدّينيّة
كان الطّوسيّ ذا فكرٍ منظّم، يعرفُ كيف يخطّط ويدبّر، وهو في ذلك آية من الآيات، وقد أدرك أنّ النّصر العسكريّ على المغول ليس ممكناً أبداً، فقد انحلّ نظامُ العالم الإسلاميّ انحلالاً تامّاً، فلم يعد معه أملٌ في تجميع قوّة تهاجم المغول وتُخرجهم من دياره، وكانت البلاد المحتلّة أضعفَ من أن تفكّر في ثورةٍ ناجحة. وفكّر نصر الدّين طويلاً، فأيقن أنّه إذا تمّ للمغول النّصرُ الفكريّ بعد النّصر العسكريّ، كان في ذلك القضاء على الإسلام، وها هو يرى بأمّ عينه الكتبَ تُباد، والعلماء يُقتلون، فماذا يبقى بعد ذلك؟
لقد استغلّ حاجة هولاكو إليه، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكيٌّ عالمٌّ بالنّجوم، فعزمَ على كسب ثقته واحترامه، فكان له ما أراد، وصار له من ذلك سبيلٌ لإنقاذِ أكبر عددٍ من الكُتب وتجميعها، كما استطاع أن يُنجِيَ من القتل الكثيرين ممّن كانوا سيُقتلون.
ولمّا استتبّ الأمر لهولاكو خطا نصير الدّين خطوته الأولى، وكانت هذه المرّة خطوة جبّارة، فقد أقنع هولاكو بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلاميّة والتّصرّف بمواردها بما يراه، فوافق هولاكو، حينها أعلن الطّوسيّ افتتاح مدارس لكلٍّ من: الفقه، والحديث، والطّبّ، والفلسفة. وقد تولّى الإنفاق على طلّاب هذه المدارس، الأمر الّذي شجّع الكثيرين على الإقبال عليها.


من مرصدٍ إلى نهضة علميّة واسعة
أحرز نصير الدّين النّصرَ الأوّل في معارك الإسلام، فالعلم لن ينقطع بعد اليوم، ولن يجمد المسلمون عن طلبه، ثمّ انصرف يخطّط للمعركة الكبرى الكاسحة، فإذا كان إنشاءُ المدارس المتفرّقة لن يَلفِت نظر هولاكو إليها، ولن يدرك أهمّيّتها، فإنّ إنشاءَ الجامعة الكبرى، وحشدَ العلماء فيها، وحشوَ الكتب في خزانتها، سيكون حتماً منبّهاً لهولاكو، فكيف العمل؟
هنا تبدو براعة الطّوسيّ، فهولاكو استبقاه لغاية معيّنة، فراح يُقنع هولاكو بأنّه من أجل استمراره في عمله والاستفاده من مواهبه، لا بدّ من إنشاء مرصدٍ كبير، فوافق هولاكو على إنشائه، وفوّض إلى نصير الدّين المباشرة بالعمل.
ضخّم نصير الدّين أمرَ المرصد لهولاكو وأقنعَه أنّه وحده أعجز من أن يرفع حجراً فوق حجر في ذاك البناء الشّامخ، وأنّه لا بدّ له من مساعدِين أكْفّاء يستندُ إليهم في مهمّته الصّعبة، وأنّه لا مَناص من أجل ذلك من أن يجمع عدداً من النّاس المُختارين، سواء في البلاد المحتلّة أو في خارجها، فوافق هولاكو على ذلك.
وهنا هبّ نصير الدّين إلى اختيار مبعوثٍ حكيم، هو فخر الدّين لقمان بن عبد الله المراغيّ، وعهد إليه بالتّطواف في البلاد الإسلاميّة، وتأمين العلماء النّازحين، ودعوتهم للعودة إلى بلادهم، ثمّ دعوة كلّ مَن يراه متفوّقاً في علمه وعقله من غير النّازحين.
مضى العمل مُنظّماً دقيقاً، وانصرف العلماء بإشراف الطّوسيّ منفّذين مخطَّطاً مدروساً، فلم يمضِ وقتٌ طويل حتّى كانت المكتبات تغصّ بالكتب، وأضحت مكتبة مراغة بالذّات تضمّ مجموعة قلّ أن اجتمع مثلُها في مكتبة أخرى، وغدت المدارس تُقام في كلّ مكان، وعادت الثّقافة الإسلاميّة حيّةً سَويّة، والنّفوس مُشبعة بالأمل، والقلوب مليئة بالرّجاء، وأخذ الدّعاةُ ينطلقون في كلّ صوب، والهُداة ينتشرون عند كلّ وجهة.

وإذا لم يكن باستطاعة نصير الدّين أن يحُول بين هولاكو وبين الفتح، فقد استطاع بإخلاصه وإيمانه وقوّة شخصيّته أن يحول بين هولاكو وبين السّير على طريقة جنكيز في شرور هذا الفتح.
فلم تتعرّض أيّ مدينة إسلاميّة للإحراق والتّخريب، والهتك والقتل في الزّحف المغوليّ منذ التقاء نصير الدّين الطّوسي بهولاكو، عدا مدينة الموصل، وحلب في بلاد الشّام، ما يحتاج إلى توضيح ليس هنا مكانه. وأكثر من ذلك، فقد حمل الطّوسيُّ هولاكو على إعادة تعمير ما تخرّب في بغداد على نفقة الدّولة.
ثمّ يموت هولاكو، ولكنّ الإسلام الّذي أراد له هولاكو الموت، يظلّ صحيحَ البُنية، متوهّجَ الفكر، ثمّ يموت ابن هولاكو وخليفته «أباقاخان»، ويأتي بعده ابنُ هولاكو الآخر «تكودار»، فإذا بالإسلام ينفذُ إلى قلبه وعقله، وإذا به يُعلن إسلامه، وتُسْلِمُ الدّولة كلّها بعد ذلك في عهد «غازان».
وكان الطّوسيّ قد مات سنة 672 هجرية (1274م)، مات قريرَ العين وهو يرى طلائع الظّفر مقتحمةً الدّنيا بموكبها الرّائع، وبشائر النّصر هازجةً بأرفع صوت وأعلى نبرة. مات الطّوسيّ مُودِعاً الأمرَ إلى تلميذه وأقرب المقرّبين إليه «قطب الدّين، أبي الثّناء محمود بن مسعود الشّيرازيّ»، فنهضَ بالعبء على ما أراده نصير الدّين، فلم يجد «تكودار» الّذي أصبح اسمه «أحمد تكودار» خيراً من الشّيرازيّ خليفةً للطّوسيّ، ليكون رسوله إلى العالم الإسلاميّ.

يقول العالِم الأزهريّ الشّيخ عبد المتعال الصّعيديّ: «لم يَمُت نصير الدّين إلّا بعد أن جدّد ما بَلِيَ في دولة التّتار من العلوم الإسلاميّة، وأحيا ما ماتَ من آمال المسلمين بها» إلى أن يقول: «..إنّ الانتصار على التّتار لم يكن في الحقيقة بِرَدِّهم عن الشّام في موقعة (عين جالوت)، وإنّما كان بفتح قلوبهم إلى الإسلام وهدايتهم له». وهذا ما حقّقه نصير الدّين الطّوسيّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة