قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

الاختلاف والوحدة في نظر القرآن الكريم (3)

 

السيد محمد باقر الحكيم .. 

الاختلاف والوحدة بين الديانات الإلهية:
من الواضح من خلال النظرية القرآنية أن فكرة الوحدة لابد لها من قاعدة ووسائل كما سوف نتحدث عن ذلك في الفصل الآتي. ولكن هنا لابد أن نشير إلى أن الوحدة بين أبناء البشرية إنما يمكن أن تتحقق فيما إذا كان هناك قاسم مشترك ورئيسي يكون منطلقاً لهذه الوحدة، ومقبولاً في العمل من أجل الوحدة. ومن وجهة نظر القرآن الكريم يمكن تحديد هذا القاسم المشترك على مستوى البشرية على أساس الأمرين التاليين:


الأول: الإيمان بالله تعالى والوحي والرسالات واليوم الآخر.

الثاني: القول بالعزة والكرامة الإنسانية، واحترام الإنسان وحريته في العقيدة والفكر والعمل.

ولذا فلا مجال للوحدة في نظر القرآن الكريم بين المؤمنين والكافرين في مجتمع واحد حقيقي، فقد يجمعهم مكان واحد ووطن واحد ويكون بينهم (الهدنة)، ولكنهم لا يمكن أن يكونوا مجتمعاً واحداً من وجهة نظر الإسلام. فلا يمكن في الوحدة التنازل عن هذا الأمر؛ لأن الشرك ظلم عظيم، ويغفر كل ذنب دونه:
]إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما[ ([37]).
وبالتالي فهو يجعل حاجزاً نفسياً وتناقضاً اجتماعياً وظلماً لا يمكن التجاوز، بل يمثل التمزق والاختلاف بين الناس على أساس التعدد من التدمير، بخلاف التوحيد الذي يمثل الوحدة الحقيقية.
] قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ...[([38]).
ولاشك أن هذا الموقف الذي يذكره القرآن لإبراهيم وأتباعه من أجل التأسي به يجسد هذه النظرية القرآنية للوحدة، ولكنه موقف إنما يتم اتخاذه بعد إقامة الحجة والبلاغ بالحكمة والموعظة الحسنة.
] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون[ ([39]).
كذلك لا مجال للوحدة في نظر القرآن بين الطغاة والمساكين، والمستكبرين والمستضعفين، والظالمين والمظلومين في مجتمع واحد حقيقي، فقد يجمعهم ـ أيضاً ـ مكان واحد ووطن واحد، ولكنهم ليسوا مجتمعاً واحداً في نظر الإسلام، بل يتحول المجتمع إلى مجتمع متمزق في واقعه: ] إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين[ ([40]).

بل أن الإسلام فرض القتال على المستضعفين عندما يكونون قادرين على ذلك، والقتال هو النزاع والاختلاف والفرقة:
] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [([41]).
] وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [ ([42]).
ومن هذا المنطلق نجد القرآن الكريم عالج بشكل خاص قضية الوحدة، والاختلاف بين المسلمين وأهل الكتاب (أهل الديانات الإلهية) باعتبار توفر القاسم المشترك بينها. فإن القرآن الكريم في البداية قد دعا أهل الكتاب إلى دين الحق ـ وهو: الإسلام ـ وحثهم على الدخول فيه:
] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [ ([43]).
معالجة أسباب الانحراف عند أهل الكتاب:
وقد حاول القرآن الكريم أن يعالج مجمل الانحرافات وأسباب الاختلاف التي كانوا عليها، خصوصاً قضية الشرك بالله تعالى ونقضهم للمواثيق؛ وذلك من أجل توحيدهم في دين واحد وجعلهم أمة واحدة:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [ ([44]).
] لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [ ([45]).
] لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [ ([46]).


ويمكن تلخيص أهم الأسباب بالنقاط التالية:
1 ـ الانحراف في العقيدة من خلال الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء، والغلو في العقيدة: كنسبة الولد إلى الله، أو تصور أنه ثالث ثلاثة، أو أن يد الله مغلولة، أو اتخاذ الرهبان والأحبار أرباباً من دون الله، أو غير ذلك من الموارد التي أشار إليها القرآن الكريم.
2 ـ التمسك والتعصب للأسماء والشعارات بعيداً عن الالتزامات العملية والسلوكية، كقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، أو الزعم بأنهم أولياء الله الذين لا يتعرضون إلى العذاب والمؤاخذة لتمسكهم بهذه الديانات.
3 ـ نقض المواثيق والعهود التي أخذها الله عليهم في الإيمان به والدفاع عن الحق والمظلومين وفي التصديق بالنبي الأمي العربي.
4 ـ الاهتمام بالمناصب والمواقع الاجتماعية، وجمع الأموال عن طريق المتاجرة بالدين وآيات الله وكلماته.
] وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [([47]).
5 ـ تأويل النصوص الدينية وتفسيرها حسب الأهواء والآراء والأماني، وعن طريق الاجتهادات الخاطئة البعيدة عن العلم واليقين والاعتماد على الظن والوهم.


] وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ *  وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ ([48]).


إطار الوحدة بين الديانات الإلهية:
وقد وضع القرآن الكريم إطاراً للوحدة بين أتباع الديانات الإلهية إلى جانب محاولته لمعالجة مجمل الانحرافات التي أصابت الأمم والجماعات التي آمنت بهذه الرسالات؛ وذلك من أجل إبقاء العلاقة النفسية والروحية بين المسلمين وأتباع هذه الديانات، وتهيئة الأرضية للتعايش الاجتماعي والسياسي بين هذه الديانات من ناحية، وإيجاد صف واحد للمؤمنين بالله واليوم الآخر في مواجهة قوى الوثنية والشرك والإلحاد.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[37]  ـ النساء: 48.
[38]  ـ الممتحنة: 4.
[39]  ـ التوبة: 23.
[40]  ـ القصص: 4.
[41]  ـ الحج: 39 ـ 40.
[42]  ـ النساء: 75.
[43]  ـ المائدة: 15 ـ 16.
[44]  ـ المائدة: 77 ـ 81.
[45]  ـ المائدة: 17.
[46]  ـ المائدة: 70.
[47]  ـ البقرة: 41.
[48]  ـ البقرة: 87 ـ 89.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة