مقالات

(المثنوي) وأصول أصول أصول الدين


الشيخ حسين المصطفى

شاهدت مقطعاً مرئياً للمرجع السيد علي الخامنئي دام ظله وهو يقرأ نصاً من مقدمة كتاب مثنوي لجلال الدين الرومي (1207م-1273م)، المعروف في آسيا الوسطى وأفغانستان وإيران بمولانا جلال الدين، وفي الغرب بِرومي.
في مقدمة الكتاب الأول، المكتوبة باللغة العربية، وصفت المثنوي بأنه "أصول أصول الدين، وكشف أسرار الوصول واليقين". وعقَّب السيد الخامنئي أنَّ هذا هو عقيدته في كتاب المثنوي، ونقل عن الشهيد الشيخ مرتضى المطهري -أيضاً- أنه يرى نفس هذا الرأي.
يقول السيد الخامنئي في ذلك المقطع: "جزء مهم من شعرنا الديني هو ما يرتبط بالمسائل العرفانية والروحانية، وهذا بحر عظيم من المعارف. اطلعوا، على سبيل المثال، على شعر المولوي -جلال الدين الرومي- اطلعوا على شعر المولوي، لو فرضنا عدم تمكن أحدكم من دراسة ديوان شمس -للمولوي أيضاً- لكونه من نوع خاص -يتعسر فهمه- ، فكثير منا لا يستطيع إدراكه وفهمه، ولكن عندنا المثنوي الذي هو بنفسه -أي الرومي- يقول: وهو -أي المثنوي- أصول أصول أصول الدين! وواقعاً هذا هو اعتقادي أيضاً، وقد سألني مرة المرحوم آية الله المطهري أن: ما رأيك في المثنوي؟! فأجبته بهذا، أنَّ رأيي كما قال؛ هو أنه أصول أصول أصول الدين، فقال المطهري: هذا صحيح كاملاً، وعقيدتي هي هذه كذلك؛ أي أنَّ المثنوي هو أصول أصول أصول الدين".
وبغرض تشويه شخصية السيد علي الخامنئي ومن سار على هذا النهج، وُضع، في قبال كلامه، مقطعاً صوتياً للعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني (1902م-1971م)، صاحب كتاب الغدير، يتهجم فيه على العبارة الآنفة الذكر. وأعتقد أنَّ هذا الكلام من الشيخ الأميني وممن عداه هو بسبب تفسيرهم الخاطئ لمراد المصنف.
وليس المراد بالأصول (أصول الدين)، المصطلح في علم الكلام، والذي يطلق على مجموعة الاعتقادات الأساسية للدين الاسلامي والتي يجب على كل مسلم الاعتقاد بها، وإلا فلا يعدّ مسلماً.
وإنما المراد بـالأصول المعاني الراقية التي يتفق عليها البشر كالإنسانية -مثلاً-، فالمثنوي يتكلم عن المنطقة العليا للنفس الإنسانية، والتي فيها يقع (الحب)، وفيها تتجلى الصلة بين الفرد وبين الوجود والمحيط.. فهذه القضايا تمس دائرة الإنسانية، وهي أعلى من دائرة الديانات؛ فالديانات تظهر داخل الإنسانية، والإنسان حاوٍ لكل ذلك .. فجلال الدين الرومي لا يتكلم عن (أصول الدين) كما توهم الكثيرون، بل يتكلم عن المنطقة العليا من النفس الإنسانية.
وفي عبارته الثانية يصف جلال الدين الرومي كتابه المثنوي بأنه "كشف أسرار الوصول".. وليس معناه -أيضاً- ما توهمه الكثير وهو: (الوصول إلى الله)، فالصوفية ليست عندهم مصطلح (الوصول إلى الله)؛ لأنه سبحانه وتعالى غير محدود.
والقاعدة الصوفية تقول: "من زعم أنه وصل فقد كفر".. والكفر -هنا- بمعنى خفاء الحقيقة؛ فكيف بالمحدود أن يصل إلى اللامحدود؟!! فما الذي حينئذ ستصل إليه؟!! فالوصول محض زعم، ومن زعم فقد أخفى الحقيقة عنه.
فالمثنوي لا يتحدث عن (الوصول إلى الله)، بل عن (الوصول إلى الإنسان)؛ والوصول إلى الحقيقة المحتجبة في داخلك. أليس مكتوباً عند اليونان وفي فناء معبد أبولو في دلفي الحكمة الخالدة: "أيها الإنسان اعرف نفسك"؛ وبهذا حوَّلت الفلسفة من فلسفة إلهية تدرس ما وراء الطبيعة إلى فلسفة إنسانية تبحث في مشاكل الإنسان والمدينة.
وجاءت الحكمة عينها في صحائف القرآن الكريم، وبصورة أجلى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.. يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: "ومن لم يقف من نفسه ولا من غيره، على اختلاف آثار الحق فيه وفي كلِّ نفس، فلا معرفة له بالله ... وهو من أهل الجهل بالله، وبنفسه، وبالعالم، وما أورثهم الجهل إلا التشابه"(الفتوحات المكية: ج 2ص 500).
إنَّ أول كلمة نزلت وحياً من السماء هي {اقْرَأْ}؛ لتكون أساساً للإسلام وقاعدة في القرآن، ولتصبح هذه الكلمة شعار حضارة الإسلام. ولقد كان نزولها قبل تشريع الصلاة والصوم والحج؛ لأنه بدون أن يعرف الإنسان كيف يقرأ تفقد كل العبارات روحها، وتفقد الشريعة أثرها وتأثيرها..
إنها دعوة لقراءة كتاب الكون المفتوح المتصل بالله في كل ذرة من ذرات الخليقة، وفي كل حبة رمل، ونسمة هواء، وثمرة شجر.. وهي دعوة -أيضاً- للقراءة في كتاب النفس الإنسانية؛ عبر تاريخه الطويل، في كل نزعة خير، ونزوة شر، وعاطفة يسمو بها نحو الجمال والجلال أو تهوي به نحو الضياع والشقاء.
أيها الأحبة..
إنَّ الحجاب سَّتر وحيلولة ومنع..
والغض كفّ ومنع..
فالحجاب ترقي؛ نصفه الباطن نور ونصفه الظاهر ظلمة، وفيه يتجلى استقلال الذات..
والغض ترقي؛ نصفه الباطن فضول ونصفه الظاهر امتلاء، وفيه يتجلى محاسن الألوان..
فأيهما أنت أيها الإنسان؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة