قرآنيات

﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ .


الشيخ محسن قراءتي

سبب النّزول:
قال جماعة من المفسّرين إنّه بعد نزول ما تقدّم من الآيات آنفاً جاء النّبي طائفةٌ من الأعراب وحلفوا أنّهم صادقون في ادّعائهم بأنّهم المؤمنون وظاهرهم وباطنهم سواء، فنزلت الآية الأولى من الآيات محل البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا، فالله يعرف باطنهم وظاهرهم، ولا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.

لا تمنُّوا عليَّ إسلامكم:
كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين، وحيث أنّا ذكرنا في شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا إنّ ادّعاءهم كان حقيقةً وإنّ الإيمان مستقرٌّ في قلوبهم، فإنّ هذه الآيات تنذرهم وتبيّن لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار والقسم، كما أنّ هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك الجماعة، فمسألة (الكفر والإيمان) إنّما يطّلع عليها الله الخبير بكل شيء!
فذاته المقدّسة هي علمه بعينه وعلمه هو ذاته بعينها ولذلك فإنّ علمه أزلي أبدي!
ذاته المقدّسة في كلّ مكان حاضرة، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، ويحول بين المرء وقلبه، فمع هذه الحال لا حاجة لادّعائكم، وهو يعرف الصادقين من الكاذبين ومطّلع على أعماق أنفسهم حتى درجات إيمانهم المتفاوتة ضعفاً وقوّةً، وقد تنطلي عليهم أنفسهم، إلاّ أنّه يعرفها بجلاء، فعلامَ تصرّون أن تعلّموا الله بدينكم؟!
بتعبير آخر أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه فهو سبحانه عالم بذلك فلا يحتاج إلى إخباركم به وهذا استفهام إنكار وتوبيخ أي كيف تعلمون الله بدينكم ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ﴾ لأن العالم لنفسه يعلم المعلومات كلها بنفسه فلا يحتاج إلى علم يعلم به ولا إلى من يعلمه كما أنه إذا كان قديماً موجوداً في الأزل لنفسه استغنى عن موجد أوجده.

نقاط وتأمُّلات:
كان البعض يحلفون للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن إيمانهم به إيماناً صادقاً، فنزلت هذه الآية تصرّح بأنَّه لا حاجة إلى الحلف واليمين، فإن الله تعالى يعلم بكل شي‏ء.
إنَّ عرض الإيمان والمعتقدات على أولياء الله سبحانه إن كان بهدف التقييم والتصحيح، أو لأجل حصول الاطمئنان، كان عملاً محموداً جداً، وهذا هو الذي فعله العالم التقيّ والمحدّث الجليل السيد عبد العظيم الحسني الّذي عرض عقائده على الإمام الهادي (عليه السلام).
أما إذا كان عرض العقائد رياء كالمخاطبين في هذه الآية فهو أمر يستدعي التوبيخ والتنديد.

دروسٌ وبصائر:
1 - إنَّ التظاهر عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو في الحقيقة تظاهر عند الله تعالى.
فمع أنَّ تلك الجماعة تظاهرت بإيمانها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن القرآن الكريم يقول: ﴿ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ ﴾ .
2 - لا ينبغي لنا الادّعاء والتظاهر أمام الله سبحانه الذي يعلم كل شي‏ء: ﴿ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ . ﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
3 - إنَّ الله تعالى عالم موجد الأشياء كما هو عالم بخصوصيات كل شي‏ء: ﴿ يَعْلَمُ ... وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ . يمكن أن يعلم المحافظ على مخزن بكل البضائع الموجودة في ذلك المخزن، ولكنه لا يعلم ممّ يتركب كل واحد من هذه الأشياء، أو ما هو أثر كل واحد منها على وجه الدّقة والتحديد.

سعة علم الله تعالى.
الله سبحانه يعلم منذ الأزل (بروحية الإنسان) وبكل الحوادث والموجودات، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود، فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علماً، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله، وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم، ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي، والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض: أريد أن أرى عملياً ما كان في علمي نظرياً، (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافاً كبيراً، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح) .
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، لَطُفَ بِهِ خُبْراً، وَأَحَاطَ بِهِ عِلْماً، أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ، وَجَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ، وَضَمائِرُكُمْ عُيُونُهُ، وَخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ».
أيضاً إنّ جميع ما ينفذ في الأرض يعلم به الله، سواء قطرات المطر والسيول، وبذور النبات التي تنتشر في الأرض بمساعدة الهواء والحشرات، وجذور الأشجار التي تنفذ، بحثاً عن الماء والغذاء، إلى أعماق الأرض، وأنواع المعادن والذخائر التي كانت يوماً على سطح الأرض ثمّ دفنت فيها، وأجساد الموتى وأنواع الحشرات... نعم إنّه يعلم بكلّ ذلك.

ثمّ إنّه يعلم بالنباتات التي تخرج من الأرض، وبالعيون التي تفور من أعماق التراب والصخور، وبالمعادن والكنوز التي تظهر، وبالبشر الذين ظهروا ثمّ ماتوا، وبالبراكين التي تخرج من أعماقها، وبالحشرات التي تخرج من بيوتها وجحورها، وبالغازات التي تتصاعد منها، وبأمواج الجاذبية التي تصدر منها الجاذبية.. الله تعالى يعلم بذلك جزءاً جزءاً وذرّة ذرّة. وكذلك ما ينزل من السماء من قطرات المطر إلى أشعّة الشمس الباعثة للحياة، ومن الأعداد العظيمة من الملائكة إلى أنوار الوحي والكتب السماوية، ومن أشعّة الكونية إلى الشهب والنيازك المنجذبة نحو الأرض، إنّه عالم بأجزاء كلّ ذلك. وكذلك ما يصعد إلى السماء، أعمّ من الملائكة، وأرواح البشر، وأعمال العباد، وأنواع الأدعية، وأقسام الطيور، والأبخرة، والغيوم وغير ذلك، ممّا نعلمه وممّا لا نعلمه، فإنّه واضح عند الله وفي دائرة علمه.
وإذا فكّرنا قليلا بأنّ في كلّ لحظة تدخل الأرض ملايين الملايين من الموجودات المختلفة، وملايين الملايين من الموجودات تخرج منها، وملايين الملايين تنزل من السماء أو تصعد إليها، حيث تخرج عن العدّ والحصر والحدّ، ولا يستطيع أي مخلوق أن يحصيها.. إذا فكّرنا بهذا الموضوع قليلا فسنعرف مدى اتّساع علمه سبحانه.

وأخيراً يقول سبحانه مبيناً ما تقدَّم: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة