قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

تفسير القرآن بغير الأُصول الصحيحة


الشيخ جعفر السبحاني

..... وقد أُريد الوجهان من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي، وقد اختارهما لفيف من المحقّقين، نذكر ما يلي:
قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (المتوفّى 671هـ) قال ـ بعد نقل روايات ناهية عن التفسير بالرأي ـ:
إنّ النهي يحمل على أحد وجهين، أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد من الآية ذلك، ولكن مقصوده أن يُلبس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجِّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه، أي رأيه حملَه على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.
الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يُحكِّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لابدّ له منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط، ثمّ بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلاّ بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.(1)
وقد اختار ابن عاشور (المتوفّـى عام 1284هـ) هذا المعنى، فذكر للتفسير بالرأي هذين الوجهين، أيضاً وقال:
الأوّل: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويُرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه، ويمنعه عن فهم القرآن حقّ فهمه ما قيّد عقله من التعصب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه.
الثاني: إنّ المراد بالرأي هو القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم.(2)

فعلى ذلك التفسير بالرأي يتلخص في أمرين:
الأوّل: أن يتوخى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيه المُسْبَق حتى يحتج بالآية على الخصم أو يبرر به عمله، ففي ذلك الموقف ينظر المفسر إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر دعم موقفه وعقيدته ومذهبه.
الثاني: الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفي الأُسلوب الصحيح في تفسير القرآن حسب ما قدمناه عند البحث في مؤهلات المفسر.
ويظهر من السيد الطباطبائي أنّه خص التفسير بالرأي بالقسم الثاني ببيان آخر وهو أنّ كلام اللّه سبحانه لرفع مستواه لا يُفسّر كما يفسّر به كلام الإنسان حيث قال: إنّ الإضافة في قوله «برأيه» يفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال، بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فإنّ قطعة من الكلام من أيِّ متكلم إذا ورد علينا، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي، ونحكم بذلك أنّه أراد كذا، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كلّ ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة، ونعهده من مصاديق الكلمات، حقيقة ومجازاً.

والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضه ببعض، في حين أنّه مفصول ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي ـ عليه السَّلام ـ .
فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدبَّرون القُرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْد غَير اللّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كَثيراً).
فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف.
وبعبارة أُخرى: إنّما نهى ـ عليه السَّلام ـ عن تفهّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع، والدليل على ذلك قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في الرواية الأُخرى: «من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» فإنّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق.
والمحصل: أنّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنة، وكونه هو السنّة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن.(3)

ومع أنّه فصل الكلام في القسم الثاني من التفسير بالرأي ـ لم تفته الإشارة إلى القسم الأوّل في بعض كلماته قال:
يعرض المفسر الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع أو مظنون بهما ظناً راجحاً....

ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير القرطبي:1/33ـ 34.ولاحظ تفسير الصافي:1/39.
2- التحرير والتنوير:1/30ـ 31.
3- الميزان:3/76ـ77.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة