مقالات

دعوة الإسلام إلى التعليم والتعلم


الشهيد مرتضى مطهري

.... مسألة العلم والتعلم وهي عملية أخذ الأفراد من بعضهم البعض ولا أتصور ثمة حاجة إلى أن نبحث في دعوة الإسلام إلى التعليم والتعلم، لأنها أمر واضح وإنما ينبغي أن نبحث حدود العلم الإسلامي والتعاليم الإسلامية، وما هو العلم الذي يدعو له الإسلام، وإلاّ فإن أول آيات الوحي تقول: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) (سورة العلق، الآيات: 1 ـ 5). وهي أكبر شاهد على اعتناء الإسلام الفائق بالتعليم والتعلم، "الذي علم بالقلم" فالقلم مظهر الكتابة، (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (سورة الزمر، الآية: 9). (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً) (سورة القصص، الآية: 80). وقال الرسول الأكرم (ص): "بالتعليم أرسلت" في تلك القصة المعروفة من أنه دخل المسجد ورأى حلقتين من الناس إحداهما مشغولة بالعبادة والأخرى مشغولة بالتعليم والتعلم، فقال: كلاهما على خير، ولكن بالتعليم أرسلت، ثم أقبل نحو الحلقة المشتغلة بالتعليم والتعلم وجلس فيها.
آية أخرى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (سورة الجمعة، الآية: 2) كلمة يزكيهم تناسب التربية أكثر من التعليم، وفي قوله (ويعلمهم الكتاب والحكمة) أيًّا كان المراد من الكتاب، سواءً مطلق الكتاب أو خصوص القرآن، فبالتالي نجد الكتاب والحكمة توأمين، إذ الحكمة هي الحصول على الحقيقة، والبحث في أنه أي شيء يعد حكمة وأي شيء لا يعد حكمة "بحث صغروي" فكل حصول على حقيقة يسمى حكمة: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (سورة البقرة، الآية: 269)
فإذن لا بحث في هذه الناحية من كون الإسلام قد دعا إلى التعليم والتعلم بشكل عام، بل إن هدف الإسلام وطموحه أن تصبح الأمة الإسلامية عالمة و"طلب العلم فريضة على كل مسلم" من مسلمات الأحاديث النبوية، ولا خصوصية للمسلم هنا، وليس هو في قبال المسلمة.

أيّ علم
المهم في مسألة التعليم والتعليم، أن نرى ما هي حدود هذا الموضوع؟ قلت في إحدى محاضراتي المطبوعة باسم "فريضة العلم": إن بعض العلوم واجبة عينًا، مثل: معرفة الله وملائكته ورسله واليوم الآخر، ذلك المقدار الذي يكون مقدمة للإيمان أو هو من شرائطه، لأن الإيمان في الإسلام هو الاعتقاد عن علم لا عن تقليد، فهذا العلم واجب عيني وقد ذكر جميع العلماء، فإذن القدر المسلم من "طلب العلم فريضة" يشمل تلك العلوم التي تكون من شرائط الإيمان، وبعد أن نتجاوز ذلك ينبغي أن نرى ما هو هذا العلم؟
لقد أثير بحث بين علماء المسلمين "عديم الفائدة" حول أن هذا العلم الذي يجب تعلمه ما هو؟ قال الفقهاء: إن المراد منه هو علم الفقه، لأنه مقدمة للعمل، وقال علماء الأخلاق: إن علم الأخلاق أوجب منه وأكثر لزومًا، وقال علماء الكلام: إنه علم الكلام، وقال علماء التفسير: إنه علم التفسير وكلام الله، ولكن هذا لا يحتاج إلى بحث، إذ أن العلم أما أن يكون هدفًا أو مقدمة لهدف، فكلما كان العلم هدفًا يكون واجبًا مثل أصول العقيدة، ولو لم يكن هدفًا، فإن توقف عليه هدف من الأهداف الإسلامية كان واجبًا من باب وجوب المقدمة، وإن الفقهاء أنفسهم يقولون: إن تعلم المسائل واجب مقدمي، إلا أنه تهيؤي، وحسب المصطلح واجب نفسي تهيؤي، أي أن الشيء الذي يجب علينا هو العمل، فمثلًا يجب علينا أن نصلي، ولكن الذي يريد أن يصلي صلاة صحيحة لا يمكنه ذلك ما لم يتعلم مسائل الصلاة، فإذن لأجل أن يكون الإنسان متمكنًا من أداء الصلاة بنحو صحيح، يجب عليه أن يتعلم مسائلها، ولا يختص ذلك بالصلاة وبالصيام، بل كل وظيفة من الوظائف الإسلامية تتوقف على علم، يكون ذلك العلم واجبًا، إلا أنه واجب نفسي لا تهيؤي، أي يهيئونا لواجب آخر، فهو من الواجبات المقدمية، وعلم الأخلاق طبعًا "واجب نفسي تهيؤي"، فالإسلام يريد منا أن نزكي أنفسنا وذلك لا يمكن دون تعلم، فإذن تعلم المسائل الروحية والأخلاقية مقدمة لتزكية النفس، وكذلك عندما نريد أن نتعلم أوامر القرآن وإرشاداته يكون بديهيًّا وجوب تعلم القرآن وتفسيره، وحينئذ تتسع دائرة العلم، إذ لدينا إضافة إلى الواجبات العينية واجبات كفائية فالواجبات تتعدد على أساس تقييم العمل، نظير وجود الطبيب فإنه لابد منه، لذا يكون علم الطب واجبًا كفائيًّا، أي بقدر كفاية الأطباء للمجتمع، ولا يمكن للطبيب أن يكون طبيبًا دون تعلم فإذن يجب تعلم الطب، إن وجود الطبيب لازم، ولكن من البديهي أن عليه أن يهيئ مقدمة أيضًا، فعلم الطب واجب كفائي ولكن ما هو حده؟ لا يوجد له حد معين لأن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة، ففي يوم من الأيام كان يجب على الإنسان أن يقرأ كتاب (القانون لأبي علي بن سينا ليصبح طبيبًا، واليوم يجب عليهم أن يقرأوا شيئًا آخر).

المثال الآخر: "التجارة" هل ثبت في نظام الاقتصاد الإسلامي حتمية وجود عدة وسائط توصل السلع من المنتج إلى المستهلك، وأن يكون عدد من الناس ذوي أعمال حرة باعتبارهم واسطة بين المنتج والمستهلك؟ فإن ثبت ذلك فتعلم علم التجارة واجب.
مثال آخر: يقول القرآن (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) (سورة الأنفال، الآية: 60). هل إن إعداد القوة بنحو يرهب عدو الله واجب أم لا؟ نعم هو واجب، ولكن هذا العمل لا يأتي بنفسه، فلا تحصل القوة بحمل المسحاة، بل هناك طريق لتحصيل القوة ألا وهو العلم، أما إلى أي مستوى؟ إنه المستوى الذي يحصل به إرهاب عدو الله وعدوكم المختلف باختلاف الأزمنة.

ومن هذا يتضح معنى قوله (ص): "طلب العلم فريضة على كل مسلم" فبعض العلوم واجب عينًا على كل شخص، وبعضها واجب كفائي، لأنه مقدمة لواجب كفائي، ومقدمة الواجب واجبة، ولا مجال للشبهة أو الشك من هذه الجهة، وان كان البعض يقول: إن هذا العلم الواجب يختص فقط بعلوم الدين، يعني العلم الذي تكون موضوعاته مسائل دينية، إن تعلم الدين علم، وتعلم الشيء الذي يريد الإنسان عن طريقه أن يعمل بواجبه الشرعي علم آخر، وليس العلم منحصرًا في أن يتعلم الناس الدين فقط دون الأمور التي يتوقف عليها الدين، وينقسم الدين إلى واجب نفسي "لمعرفة الله" وواجب مقدمي "كتعلم أحكام الصلاة"، إن الإسلام لم يقل: تعلموا الدين، بل قال طبقوا الدين، وعندما نريد أن نطبق الدين لا يتأتى لنا ذلك دون تعلمه، فإذن علينا أن نتعلم الدين لنعمل به، وكذلك الوظائف الأخرى التي ترك الدين أمرها إلينا (كالطبيب الذي يحتاجه الناس) فمن البديهي أننا ما لم نتعلم هذه المهنة لا يمكننا تطبيقها، فينبغي أن نتعلم الوظائف لنعمل بها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة