مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

النموذج وأثره في صناعة الوعي، وقفة مع علي عليه السلام (1)


إيمان شمس الدين

مقدمة
إن بعض الشخصيات التاريخية تشكل لنا نقطة انطلاق من الماضي نحو الحاضر، خاصة تلك الشخصيات التي أجمع عليها التاريخ بشخوصه الماضين كنموذج ومثل أعلى، بل أجمعت الأحداث التاريخية على أهميتها في صناعة الحدث التاريخي الآني الزمكاني والمستقبلي وقدرتها على تأسيس منهجيات مستديمة في ثوابتها لكنها تحمل في طياتها ديناميكية حركية متطورة كمًّا وكيفًا مع تقادم الزمن.
نحتاج في قراءة الشخصيات التاريخية النموذجية إلى دراستها على أساس قراءة كلية بالنظر إلى الزمان والمكان، وكيف يمكن الاستفادة منها كمنهج نقدمه نحن كسفراء لها نستطيع من خلاله التمثيل الصحيح .
والنظرة الكلية تتيح لهذه النماذج أن تتسيد كمنهج عملي وليس فقط كشخصيات أسطورية تبقى في عالم الخيال وترتكز في ذاكرة الأجيال على أنها صعبة التحقق والوصول لها بعيد المنال.
بل علينا أن نقدمها كنموذج يمكنه أن يتسيد مجتمعاتتا بطريقة عصرية للجيل تجمع بين الأصالة والخلود، وتقدم بديلًا حضاريًّا يجيب على كل تساؤلات الجيل ويمنحها أمنًا فكريًّا وعاطفيًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا بما يغنيها عن النماذج الفاسدة.

ويكون ذلك من خلال استقراء كامل لها في عدة اتجاهات:
١- استقراء البيئة الحاضنة -أي الأسرة -فننظر لما قدمته هذه الأسرة من منظومة قيم ومبادئ متكاملة ومتناغمة مع المنهج الإسلامي بثلاثيته العقدية والفقهية والأخلاقية وبما لا يتناقض مع مقاصده.
٢-  استقراء لها كذات وشخص في ضمن هذه العائلة كمنهج فكري وسلوكي أسري ومن جهة أخرى في علاقتها مع الخالق الذي يؤسس لكل ارتباطاتها العلائقية.
٣-  استقراءالشخصية في بعدها الرسالي وكفرد في المجتمع.
٤- أن ننظر للشخصية ضمن منظومة الإسلام المتكاملة كي نستوعب محوريتها ودورها في المنظومة الإسلامية.

فلكي نعرف ونطلع على جانب من شخصية علي (ع) علينا أن نعرفه كنموذج كامل حتى نرى أن الجانب الجزئي لا ينفصل عن الكل وأن صدق دوره الجزئي يعكس صدق الأصل.
لا نستطيع إبقاء علي (ع) في دائرة حزبية أو مذهبية ضيقة لأن ذلك يمنع من سيادته كنموذج في المجتمعات، بل علينا أن نخرجه لرحاب الإنسانية الجامعة القادرة على استيعاب إما "أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، هذا الخروج يفتح آفاقنا نحو معرفة علي (ع) كما أرادها الله لا كما رسمته مخيلات البشر، وهذا الخروج يخلق لنا آفاق خلاقة في فهم الأبعاد الوظيفية لشخصية الإنسان من خلال علي (ع)، وبما يتناسب مع قاعدة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" حيث يمثل علي (ع) امتدادًا رساليًّا عميقًا يجعله مصداقًا للرحمة للعالمين.
فالاطلاع على النموذج كمرجعية معصومة وكنموذج كلي يعطينا قدرة على تطبيق هذا النموذج على كل المصاديق، آخذين في الحسبان الاختلاف في الزمان والمكان، ومتطلعين إلى الكليات والثوابت في هذا النموذج الصالح لكل زمان ومكان.
فعلي (ع) إذا أردنا أن نتعرف على جزء من شخصيته فيجب أن يتناغم هذا الجزء مع كافة الجزئيات المكونة للنموذج، بطريقة لا يتناقض فيها جزء مع أخر مما يشوه المنظومة الكاملة، فعلي (ع) منظومة متكاملة من القيم والمبادئ المتناغمة مع مقاصد الإسلام ومساراته المتعددة.
فحينما نسلط الضوء على خصال علي (ع) فهذا يعتبر ثمرة لتراكم كمي ونوعي في منظومته المعرفية، حيث الخصال السلوكية كمال ظاهري وكمال باطني ومعنوي يتألق بالروح أمام الخالق سيرًا وسلوكًا وفكرًا، فيعصم العقل والفكر والقلب عن كل لهو وفراغ وترف وفرعيات وجزئيات، إنها خصال سلوكية مادية ومعنوية، جسدي وروحي وعقلي، تراكم وتكامل في كل اتجاهات الشخصية العلوية، فلا نستطيع التركيز على جزء وإهمال الأجزاء الأخرى لأنها ستضر بمنظومة القيم السلوكية.
وإذا ما أردنا النظر إلى جانب وظيفي من شخصية علي (ع) السلام، فإن القيم الإنسانية تتجسد كاملة فيه، فعلاجها للإشكاليات المعاصرة لا يقتصر على ظاهري لها، بل يتعداه للعلاج الروحي والنفسي والمعنوي والعقلي بحيث يصبح العلاج هنا منهجًا متكاملًا يتعاطى مع كل مقومات الإنسان وجوانبه الروحية والعقلية والجسدية.
فالقوة المطلقة غير المقيدة لا يمكن تحقيقها بهذا الإطلاق واللاقيد إلا لله تعالى. ولكي تتنزل هذه السيادة السماوية للأرض فلا بد من وجود أوعية قابلة لهكذا نمط سيادي مطلق وغير مقيد، يكون مستخلفًا واعيًا ومدركًا لكل حيثيات الاستخلاف الصحيح وفق إرادة الخالق لتكون هذه السيادة الأرضية في طول سيادته وليس في عرضها وتأتي بعد ذلك سيادة الخلق في الأرض من السماء وفق مراتب تتصل بمراتب الوجود.

النموذج الذي يسود هو القدوة التي تشكل مرجعية فكرية ودينية وسلوكية عبر الزمن، والقرآن يجعل موقع القدوة بموقع الربوبية بمعنى التربية، وهنا بالسيادة تتحقق الربوبية المتصلة بالتربية والربط بالنموذج الأكمل، وكان صراع الأنبياء مع المستكبرين عبر التاريخ في جزء منه هو صراع حول الربوبية المتصلة بإدارة الشأن والتنظيم والتربية. وكان المعصوم يرى الله ربًّا بمعنى أنه المرجعية المعصومة في التربية.
عن النبي الأكرم: " أدبني ربي فأحسن تأديبي".
وأعاد الراغب الأصفهاني الربوبية والتربية لنفس الجذر اللغوي، فقال في تعريفه ل (الرب): "الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام".
ووظيفة النموذج الأكمل من أكبر الوظائف وهي الربط بين الأمة والله، ووظيفة المثل المتبع لهذا النموذج هو الربط بين الأمة والنموذج، أي أدوار تقع في طول بعضها البعض ويوكل لها وظيفة التربية التي هي لب الدعوة إلى الله كونها تربية في طول تربية الله وإرادته.
ومن أهم هذه الشخصيات هي شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، والتي بالرغم من كونها شخصية جامعة لاتفاق أغلبي حولها إلا أنها تكتنز في داخل هذا الاتفاق اختلافًا مذهبيًّا حَجَّم من حَجْم هذه الشخصية العالمية الحراك والنهج والفكر، وبقيت كشخصية محل قلق فكري وعلمي لغزارة ما تحمله من علم من جهة، وللخلاف الذي دار حولها من جهة أخرى كان إطاره غالبًا مذهبيًّا وليس فكريًّا وسياسيًّا وليس عقديًّا ومعرفيًّا للأسف.

التعصب والحق ومفارقات الاتباع:
كان من ضمن خطة العمل النبوية في بناء مجتمع عالمي قائم على أساس الحق والعُصْبَة هو التأسيس الرافض لكل أنواع التعصب والعصبيات التي تقوم على أساس ولاءات انفعالية ترتبط بمن تواليه ارتباطًا حراريًّا وليس ارتباطًا واعيًا، وعل نظرة واستقراء لروايات نبذ العصبية تعطي انطباعًا واضحًا في الأهداف التي كان يريد النبي (ص) تحقيقها من خلال نبذ العصبية، والتي أهمها بناء شخصية واعية ترتبط بالحق لا بالرجال.

فقد ورد في الكافي:
- عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، ودرست ابن أبي منصور، عن أبي عبد الله عليه السلام  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله) : من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه).
 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله) : من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية).
- علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبية، فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) .
فالتعصب يجعل الوعي منحسرًا عن إدراكات النفس وقدرة العقل على استيعاب الحق والحقيقة، فالمحرك يكون العصبيات بكافة اشكالها، وبالتالي تكون النفوس محملة بقبليات تعمل على توجيهها بما هي محملة به من عصبيات.
فالمذهبية والقبلية والعائلية كلها عصبيات تلعب دورًا في ملء عقول الجماهير بقبليات توجههم باتجاه العصبية المثارة، فيصبح الحدث سواء كان سياسيًّا أو اجتماعيًّا-  مسبقًا بحكم في وعي الجماهير ومصبوغًا به، فحتى لو كان الحدث حدثًا حقيقيًّا وحقًّا فإنه سيتحول إلى باطل وسيتم القضاء عليه ومحاربته من قبل الجماهير بسبب المحمولات المسبقة والقبليات التي تم من خلالها توجيه عقول الجماهير نحوها.
العصبية تعمل عمل الحاجب بين العقل واستخدامه، بمعنى أنها تعطل حركة العقل المعرفية والبحثية المصبوغة بهوس السؤال، وتنمطه في إطار عصبوي مغلق في إطار خاص جدًّا موجه باتجاه واحد فقط، يعيش في بئر لا يرى إلا مصدرًا واحدًا للماء والنور، بعكس من يعيش تحت السماء بل فوق الأرض يرى من كافة الاتجاهات وفي كافة الاتجاهات ويضرب الرأي بالرأي ليصل بتجرد للحقيقة.
هذا فضلًا عن كون العصبيات تكتنز في داخلها بذور الفتنة التي ما إن بذرت في مجتمع حتى انحدرت به بعيدًا عن مصاف الدول المتقدمة، وحالت بينه وبين حضارته بل وأسقطتها.
فعادة اللجوء للعصبيات يكون من قبل الرموز أو الدول الاستعمارية أو الأنظمة المستبدة غير المنتخبة من شعوبها والرعوية، لتحقيق أهداف خاصة على حساب الأهداف العالمية، وإن حملت نداءاتهم شعارات الحق والحقيقة.

علي ع بين العسكرة والوعي:
موقف الإمام علي (ع) لا يخرج عن المنهج الذي أسسه نبي الرحمة محمد (ص)، ولا عن الثقل الأكبر المتمثل بالقرآن الكريم.
كان علي (ع) واضحًا في صناعة وعي الجمهور، فحينما أتاه رجل من المسلمين في حرب الجمل في حيرة من أمره يسأله أي جبهة هي على حق: جبهة علي أم عائشة؟

فبالرغم من أن الأمير عليه السلام هو الحق بإقرار النبي (ص) الذي قال الحق مع علي يدور أينما دار، إلا أن عليًّا (ع) لعلمه بابتعاد المسلمين عن عصر التشريع، وتراكم الانحراف في الوعي العام تراكمًا كميًّا وكيفيًّا، أجابه إجابة تأسيسية –  بالرغم من أن الظرف كان ظرف حرب وعسكر ويحتاج فيها كل عنصر وفرد وعادة في الحروب يكون التوجيه عسكري يغلب عليه التحيز والتعصب، لكسب عديد للجنود، ولصناعة وعي خاص يصب في صالح صاحب المعركة وحزبه وتوجهاته، ويتم صناعة تحيزات وتعصبات ترجح كفة جبهته بل في لحظات الحرب يتم توجيه الوعي توجيهًا عصبويًّا تحيزيًّا، لكن كانت إجابة علي (ع) تدلل واقعًا على المنهج الإصلاحي وآليات صناعة الوعي في عقول الجمهور بعيدًا عن العسكرة والتحيزات والعصبيات،  للأخذ بهم إلى جادة الحق وتحقيق الهدف الرسالي، فقال له: اعرف الحق تعرف أهله، حيث نستشف منهجًا في كيفية تعاطي القيادة مع المحيط:
- استنهاض العقول في البحث عن الحق لا عن الاشخاص، وتظهير وعي المحيط بتطوير قدراته العقلية والبحثية.
- محاولة التخلص من القبليات العصبية كافة كي يتجه العقل بشكل موضوعي باحثًا عن الحق لا عن القبيلة والمذهب.
- الحاجة للاتباع الواعي لا الارتباط الحراري، فقوله اعرف ولم يقل اعلم يدلل على أن المطلوب هو معرفة للحق واعية،  أي ليس فقط العلم به بل سلوك طريقه ومنهجه والالتزام بجادته على طول الخط الرسالي.
فكثر في محيط النبي (ص) ومنهم الخليفة الثاني كانوا يعلمون أن عليًّا أحق بالخلافة لكنها مجرد معلومات لم تدفعهم للتطبيق والإقرار السلوكي والعملي.
- رغم أن الظرف الذي طرح به السؤال هو ظرف حرب، إلا أن الأمير (ع) قدم نموذجًا للقيادة المنضبطة بجادة الحق والقيادة الموضوعية غير الشخصانية القادرة على تأسيس استراتيجيات للفعل ومناهج للتفكير وليس انفعالات آنية غير مدروسة تحت ضغط الظروف المحيطة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة