مقالات

ما أسرع العُمر!


الشهيد مرتضى مطهري

قال الإمام علي عليه السلام: "فسابقوا- رحمكم الله- إلى منازلكم التي أُمرتم أن تعمروها والتي رغبتم فيها ودعيتم إليها واستتموا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته والمجانبة لمعصيته، فإنّ غداً من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر"(1). إن دورة العمر بالنسبة لكل إنسان هي في الواقع مدرسة. فكما أن الدقيقة والساعة واليوم لها أهميّتها في المدرسة، وتلك الفرصة المعدودة بالدقائق، عندما يدقّ الجرس بين كل درس وآخر، وضعت من أجل تجديد القوى والاستعداد للدرس المقبل، فإنّ عمر الإنسان هو الآخر يجب أن يُنظم على هذا الأساس بحيث لا تذهب فيه الساعات والدقائق هدراً دونما فائدة.

*إدراك قيمة الوقت
يُعتبر العلامة الحلّي قدس سره  واحداً من أسطع النجوم في سماء الإسلام، وكان إضافة إلى مؤلفاته العديدة في الفقه قد ألّف في مختلف العلوم الإسلامية العقلية منها والنقلية.
لقد كان هذا الرجل تلميذاً لدى الفيلسوف والرياضي الكبير نصير الدين الطوسي قدس سره، وكان يلازمه ليل نهار. وذكر عن أستاذه قائلاً: إنه لم يترك في حياته، وفي المدة التي لازمْتُه فيها، مستحبّاً شرعياً إلّا وقام به. لقد نظّم حياته بحيث يؤدي العمل المناسب في الوقت المناسب، فحتى الفرصة للاستراحة والترفيه لها وقتها المناسب وضمن الحدود الشرعية. فالطالب الذي يهتم بدرسه ويصغي إلى ما يقول الأستاذ تكون ساعة استراحته مفيدة له وبمستوى الساعة التي قضاها في الدرس من حيث قيمتها الشرعية. لذلك فإن من شروط النجاح أن يدرك الإنسان قيمة الوقت.

لو أن شابّاً ورث عن أبيه ثروة ضخمة، وكان سفيهاً فأسرف، فإن الجميع سيأسفون لذلك الشاب ويَعجَبون لشأنه ويرقّون لحاله لعلمهم بما ستؤول إليه عاقبته من شقاء وندم.
لقد صادفنا جميعاً مثل هذه الحالة وتأسّفنا لذلك، إلا أنّنا لم نُعر اهتماماً إزاء التبذير والإسراف في ثروة هي أهم بكثير من المال... ألا وهي وقتنا وعمرنا؛ وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّنا ندرك جيداً قيمة المال ولا ندرك أبداً قيمة الوقت والزمن.
يشير القرآن الكريم إلى أولئك الذين ضيّعوا أعمارهم حتى إذا أدركوا ما آلت إليه عاقبتهم قالوا: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا﴾ (السجدة: 12) فيأتيهم الجواب: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾ (المؤمنون: 100).

*هكذا يعظ نفسه
يُذكر عن أحد الأولياء أنه حفر قبراً له في منزله فكان ينام فيه بين حين وآخر، ويوحي إلى نفسه بأنّه قد مات، ثم يلتمس من الله أن يعيده إلى الدنيا، فيَجبرُ ما قام به من ذنوب ويتوب إلى الله ويعمل عملاً صالحاً يرضاه. هكذا كان شأن هذا الرجل في وعظ نفسه وتربيتها.
إن على الإنسان أن لا يغفل إلى هذا الحدّ بحيث يحتاج إلى هذا القدر من العمليات الموحشة ليتذكّر ويستيقظ. ينبغي له أن يكون أكثر فطنة من ذلك، لأنّ الكون كله في حركة مستمرة لا يتوقّف حتى لحظة واحدة. كذلك إن الإنسان نفسه في حالة من التغيّر المستمر، فقد مرّ بعهد الطفولة ثم الشباب ثم يتّجه نحو الشيخوخة، وإنه في كل هذه الفترات في حالة زرع مستمر إلى أن يلقى ما زرع في حياته.

*طول الأمل
أضف إلى أن طول الأمل هو من أكثر الأمور التي ذمّها الدين، حيث ينعكس في ضياع الوقت، وتسويف الإنسان لنفسه في أن يعمل صالحاً في المستقبل، دون أي ضمان إلى أنه سيعيش إلى ساعة، بل إلى لحظة أخرى. يقول الإمام علي عليه السلام: "أخوف ما أخافه عليكم، اتباع الهوى وطول الأمل"(2). كذلك ورد في الأحاديث الشريفة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الوصايا التي يخاطب فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً معيّناً وهي مثبتة على شكل بيانات طويلة ومفصّلة؛ فهناك حديث طويل له مع علي عليه السلام وآخر له صلى الله عليه وآله وسلم مع عبد الله بن مسعود وثالث مع أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه)؛ ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد من وراء ذلك أن تكون مسؤولية المحافظة على تلك الوصايا الأخلاقية العامّة على عاتق ذلك الشخص المخاطب، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه بحِفظ ما يسمعونه منه وإبلاغ الجميع بذلك "وليبلغ الشاهد الغائب"(3) بنص الحديث.

*إياك والتسويف
فواحدة من وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري هي: "يا أبا ذر إياك والتسويف بأملك فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غدٌ لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غدٌ لك لم تندم على ما فرّطت في اليوم".
"يا أبا ذر كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك"(4). إن هذه الوصية العظيمة تدعو الإنسان إلى اغتنام العمر والاستفادة من فرصة الحياة. ومع الأسف الشديد فإن هذا الوقت والزمن الطويل المتذبذب الذي يطلق عليه العمر هو من أدنى الأشياء قيمةً لدى الناس.

*حرمة الوقت والعمر أسمى
إننا نشاهد الكثير من الناس ممّن ربّوا أنفسهم لا يعتدون على أموال الآخرين، فهم يخافون الله في درهم يأكلونه بالباطل، وإذا ما حدث وتضرّر أحد الناس سارعوا إلى جبران خسارته من أموالهم، ولكن هؤلاء الأشخاص أنفسهم لا يهتمون بوقت الآخرين ولا يولونه أدنى حرمة، يهدرون الوقت بأعذار شتّى، كأن يخلفوا في الوعد مثلاً.
وهذا يدل على أننا لم نهضم تماماً وصايا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أن حرمة الوقت والعمر أسمى من حرمة المال. فلو أنّا أتلفْنا مالاً لأحد الناس استطعنا أن نجبره من أموالنا، ولكن لو أتلفنا جزءاً من عمره فهل يمكننا أن نجبره من أعمارنا؟
نعود مرة أخرى إلى وصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر (رض): "يا أبا ذر إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك فإنك لا تدري ما اسمك غداً"(5).
________________________________________
1- نهج البلاغة، الخطبة 188.
2- م.ن، الخطبة 28.
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج2، ص152.
4- الوافي، الفيض الكاشاني، ج26، ص186.
5- م.ن، ج77، ص75.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد