علمٌ وفكر

الفيزياء والعقل: إشكالية العلاقة بين المجرَّد والمشخَّص (2)


د. جاسم العلوي

لكائنات الرياضية والوجود الذهني

هُناك مفاهيم وتصوُّرات قائمة في الذهن ليست موجودة في الواقع الطبيعي. الإنسان يُدرك -على سبيل المثال- الخط والسطح والدائرة على نحو مُتصل، دون حدود وفواصل، مع أن هذه التصورات الذهنية لا وجود لها بهذه الكيفية المتصلة في الطبيعة. كما أن الذهن ينتزع من هذه الخطوط أشكالًا هندسية مختلفة ويصدر عليها أحكامًا قطعية. ففي عالم الذهن تُوجد أشكال هندسية مختلفة كالمثلثات والدوائر والأسطح، ويقوم العقل بإصدار أحكامه اليقينية والقطعية عليها، وهذه الأحكام ليست لها موضوعات في الواقع المادي. وفي عالم الذهن، يتمتَّع المثلث أو الدائرة بنفس قوة الحضور الذي تتمتع به الشجرة على سبيل المثال في الواقع المادي. إذن؛ يحوي الذهن كائنات رياضية ذات قوة وصلابة لا تقل قوة وصلابة عن الكائنات المادية كما يقول النص السابق. ولقد درج الإنسان على تسخير معرفته بهذه الكائنات الرياضية في واقعه العملي، وهذا الدليل على أن مثل هذه الكائنات الرياضية القائمة في الذهن تتمتع بهذه القوة من الحضور الصلب الذي لا يُمكن للفكر أن يقاومه. التطبيقات العملية-المادية لهذه المعارف التي ينتجها العقل للقضايا التي ليست لها موضوعات في الواقع المادي، هي التي تعيدنا إلى الإشكالية الأصلية؛ وهي التطابق بين قوانين العقل والواقع. ويمكن للقارئ أن يَلْحَظ أن هذه الإشكالية الفرعية -وأعني بها الوجودات الذهنية (سيتضح لاحقًا لماذا أطلقنا عليها وجودات ذهنية)- تعود بنا للإشكالية الأم والأساس التي تحدثنا عنها.

الحديثُ عن هذه الكائنات الرياضية الموجودة في الذهن يمتدُّ ليشمل الإدركات العقلية للمعاني الكلية؛ فالإنسان، والشجر، والحيوان، وكذلك كُليات المعاني الرياضية كالزوجية والفردية، والمفاهيم الفلسفية كالعلية والوحدة والكثرة، هي في حقيقة الأمر وجودات قائمة في الذهن، وليست موجودة في الخارج؛ فالإنسان مثلًا هو مِصْدَاق عقلي كلي يضمُّ كلَّ أفراد الإنسان دون أن يكون هذا المعنى بذاته متعينًا في الخارج. وكذلك الزوجية والفردية، ينتزعها الذهن من الأعداد دون أن يكون لهذه الكُليات الرياضية تشخُّصات في الواقع الخارجي. ولسنا بحاجة للتدليل على ما تلعبه مثل هذه الوجودات أو الكائنات الذهنية في المعرفة الإنسانية وتقدُّم الحضارة البشرية. لك أن تتصوَّر مثلًا مفهوم العدد التخيلي، وهو نتاج الفكر الرياضي البحت والمجرد، ما يحققه من فوائد عظيمة في تقدُّم العلوم وتطبيقاتها. فهو -العدد التخيلي- يدخل في الكثير من المعادلات العلمية ذات الأهمية الكبرى في فهم الظواهر الكونية. يُمكن القول أنَّ هذه الوجودات الذهنية وغير المتعينة في الخارج هي ذات أهمية كبيرة في إنتاج المعرفة وتطبيقاتها العملية.

وبما أنَّ هذه الوجودات الذهنية بهذه الأهمية في مَيْدان المعرفة، فإنَّ البحث يأخذنا إلى طرح مسألة الوجود الذهني وخصائصه؛ من أجل فهم حقيقة العلم.. فما دامت المعرفة تتقوَّم بمجموعة من الانتزاعات التي يقوم بها الذهن للقضايا الحسية؛ بحيث تتشكَّل لديه مجموعة من المفاهيم الضرورية التي تُشكِّل القاعدة الصلبة التي تتأسس عليها المعرفة الإنسانية، وهذه المفاهيم هي وجودات وكائنات للفكر تمامًا تُشبه صلابة ومتانة الوجودات الخارجية في الواقع الطبيعي، فإنَّ ذلك ينحو بنا بشكل قَصْري لفهم الوجود الذهني وخصائصه فلسفيًّا؛ حتى يتسنَّى لنا فهم حقيقة العلم بمعناه الأعم.

لم يتبلور بَحْث الوجود الذهني إلا مع صدر الدين الشيرازي، وإنْ كُنا نجد في كلمات بعض الفلاسفة الذين سبقوه الإشارة إلى هذه المسألة. فهذا ابن سينا في النص الآتي يشير إلى هذه المسألة بوضوح؛ فيقول: “وإنما وقع أولئك فيما وقعوا بسبب جهلهم بأنَّ الأخبار إنما يكون عن معانٍ لها وجود في النفس، وإن كانت معدومة في الأعيان…” (7، ص:189)، وكذلك أشار الخواجه نصير الدين الطوسي إلى هذه المسألة، عندما قسَّم الوجود إلى الذهني والخارجي، بقوله: “وهو (أي الوجود) ينقسم إلى الذهني والخارجي، وإلا لبطلت الحقيقة” (8، ص:158). يظهر أنَّ الدافع وراء طرح الفلاسفة لمسألة الوجود الذهني هو إثباتهم أن العلم يتعلق بالأحكام القطعية التي يُثبتها الذهن للموضوعات غير الموجودة في الخارج، والتي لا يمكن لها أن توجد في الخارج، كتلك المتعلقة بالممتنعات والمعدومات (7، ص:190). لقد باتتْ معالم الصورة العامة تتضح لدى القارئ من العرض الذي قدَّمناه من أن كائنات الفكر لها ارتباطٌ وثيقٌ بمسألة الوجود الذهني، وارتباط هذا الأخير بنظرية المعرفة. ومن أجل البيان التفصيلي الذي يخدم الغرض الذي من أجله كتبنا هذا المقال، دعُوْنا نقف عند تقسيم الوجود إلى الذهني والخارجي كما ذكره الشيخ الطوسي في النص السابق، ونتساءل عن الصلة التي تربط بين الوجود الذهني والوجود الخارجي؟ يجب أن يُدرك القارئ أن الوجودات الخارجية تنقسم إلى ماهية ووجود، وإن الوجود وليس الماهية هو ما تتحقق به الآثار الخارجية. فماهيات الأشياء إذا كانت موجودة بوجود خارجي، فإنه يترتب عليها الآثار الخارجية. فالنار في الواقع الخارجي المادي مُضيئة ومُحرقة. أما ماهية النار الموجودة في الذهن، فلا يترتب عليها ذات الأثر الخارجي. وبذلك؛ فإنَّ الماهيات الموجودة في الخارج لا تنفك عن آثارها الخارجية، أما الماهيات الموجودة في الذهن فلا يترتب على وجودها الذهني تلك الآثار الخارجية. وعلى ضوء ذلك، رأى الحكماء الذين سبقوا صدر الدين الشيرازي أنَّ الوجود الذهني هو حضور ماهية الأشياء في الذهن مجردة من الآثار الخارجية. وبالتالي؛ فإنَّ العلم بناءً على ما قرَّره الحكماء هو حُضُور ماهية المعلوم لدى العالم. لكنَّ القول بالرابطة الماهوية بين العلم والمعلوم لم يصمُد أمام النقد الفلسفي. ولسنا نحن هنا في مقام عرض الأدلة النقضية للعلاقة الماهوية بين العلم والمعلوم؛ فذلك يُمكن للقارئ أن يرجع إليه في مصادره. لقد حرَّر صدر الدين الشيرازي العلاقة الماهوية بين علم النفس والواقع الخارجي، واستبدلها بالعلاقة الوجودية. وبذلك؛ يستكمل صدر الدين منظومته الوجودية بعد أن ربط عالم الذهن والعالم الخارجي بالرابطة الوجودية. لكنَّ توضيح مثل هذا المطلب يخرج عن حاجتنا لفهم إشكالية العلاقة بين المجرد والمشخص. ما نحن بحاجة إليه هو أن ندرك -ولو بشكل موجز- خصائص الموجود الذهني حتى يتسنَّى لنا الربط بين الكائنات الرياضية والوجود الذهني.

ومن أجل هذا الهدف، علينا أن نفرِّق بين نوعيْن من القضايا: القضايا الخارجية، والقضايا الحقيقية.. القضايا الخارجية هي قضايا كُلية، لكنها محصُورة؛ بحيث يثبت فيها الحكم للأفراد الموجودين بالفعل. فعندما نقول مثلًا: “إن الأفراد الموجودين في تلك الغرفة جميعهم مُدخِّنون”، فهذا الحُكم ثابت لهؤلاء الأفراد، وليس لهذا ربط بالأفراد خارج هذه الغرفة. إذن؛ في القضايا الخارجية يتبع الحكم فيها الموجود الخارجي، وهي بالتالي نوع من القضايا الشرطية. أما القضايا الحقيقية، فهي قضايا يثبُت فيها الحكم لماهية الأشياء، ولا تنحصر بالأفراد الموجودة في الخارج. فالماهيات تأتي للذهن، والذهن يُثبت لها الأحكام، وليست هذه الماهيات محصورة في الخارج. فعندما نقول إنَّ “مجموع زوايا المثلث يُساوي مجموع قائمتين”؛ فهذه قضية حقيقية يثبُت فيها الحكم دائما للمثلثات. وعندما تكون هذه الماهيات محصورة في الخارج فلن توجد لدينا قضايا حقيقية على الإطلاق. فجميع ما نُثبته من أحكام تتعلق بتلك الكائنات الرياضية التي تحدثنا عنها هو تتبُّع القضايا الحقيقية؛ بحيث تُثبت فيها الأحكام للماهيات الموجودة في الذهن، والتي هي أعم من الموجودات الخارجية. والأحكام الثابتة في القضايا الحقيقية تكون قطعية ويقينية، وهي غير مشروطة بالموجود الخارجي. ومن هنا، تكون قوة حضور مثل هذه الكائنات التي لا يُمكن للفكر مقاومته. كما أنَّ الذهن يمتلك قدرة على التجريد والتعميم. فالذهن يقوم بتفكيك الشيء الموجود في الخارج من بعض الكيفيات الخاصة به، وبعد ذلك يُصدر أحكامه العامة لذلك الموجود كما هو في الذهن. فالذهن قادرٌ مثلاً على تجريد المعدود الخارجي وتكوين مفهوم العدد؛ فالعدد غير المعدود، والذهن بعد تكوين مفهوم العدد يثبت له أحكامه القطعية واليقينية. (8، ص:159-1-162)؛ فما يوجد في الذهن هو ذلك الكلي المجرد، والأحكام التي يُثبتها الذهن له أحكام يقينية. ويلزم من ذلك أنَّ إنكار الكلي هو إنكار للموجود الذهني، وهذا له ضرره البالغ على المعرفة كما يذكر الشيخ عبدالله آملي في هذا النص: “أن إنكار الوجود الذهني يلحق ضررا بليغا بعلم المعرفة؛ لأنَّ كل معرفة مُرتبطة بالإدراك الكلي… وبما أنَّ الكلي موجود في الذهن فقط، وليس له طريق إلى الخارج، فيكون إنكار الوجود الذهني مُستلزمًا لإنكار وجود الكلي، وبهذا لا يبقى طريق لمعرفة أي شيء” (7، ص:192).

ورَغم أنَّنا ما زلنا نُراوح مكاننا من حيث الإشكالية الأم، دُون أن نقدِّم مُعالجة ناجعة نستوحي منها فك شيفرة سؤال المطابقة بين العقل والواقع، لكننا حاولنا أن نقدِّم مقاربات تدور في فلك السؤال نفسه، مما يُمكننا من الاقتراب أكثر من إمكانية الحل. وعند التأمُّل أكثر في سؤال المطابقة هذا، سنجد أنَّ المطابقة تحتم علينا تفكيك معنى كَون الإنسان مُدركًا. فما هو الإدراك عند الإنسان؟ وبذلك؛ فإنَّ الإشكالية تتجه بنا نحو فهم ماهية الإدراك ذاته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة