قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

بيت العبادة الخالصة


السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الآية:25.
المراد بالذين كفروا مشركو مكّة الذين كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أوّل البعثة قبل الهجرة، وكانوا يمنعون الناس عن الإسلام - وهو سبيل الله - والمؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة وإقامة الصلاة وسائر المناسك، والمراد بصدّهم: منعُهم المؤمنين عن أداء العبادات والمناسك فيه، وكان من لوازمه منعُ القاصدين للبيت من خارج مكّة من دخولها.
وبه يتبيّن أنّ المراد بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ﴾ - وهو وصفُ المسجد الحرام - جعلُه لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم، فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه، ليس لأحدٍ أن يمنع أحداً من ذلك، ففيه إشارة إلى أنّ منعهم وصدّهم عن المسجد الحرام تعدٍّ منهم على حقّ الناس وإلحادٌ بِظُلم، كما أنّ إضافة ﴿السبيل﴾ إلى ﴿الله﴾ تعدٍّ منهم إلى حقّ الله تعالى.

تطهيرُ البيت من الرِّجس المعنويّ
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الآية:26.
تبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعلُ مكانه مَباءةً ومرجعاً لعبادته لا لأن يتّخذه بيتاً سكنيّاً يسكن فيه، ويلوّح إليه قوله بعدُ ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ بإضافة البيت إلى نفسه، ولا ريب أنّ هذا الجعل كان وحياً لإبراهيم، فقوله تعالى: ﴿بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ في معنى قوله سبحانه: أوحينا إلى إبراهيم أن اتّخذ هذا المكان مباءة ومرجعاً لعبادتي. وإن شئت فقل: أوحينا إليه: أن اقصد هذا المكان لعبادتي. وبعبارة أخرى أن اعبدني في هذا المكان.
ويتّضح أيضاً أنّ قوله: ﴿أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ ليس المراد به - وهو واقع في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقاً - وإن كان منهيّاً عنه مطلقاً - بل المنهيّ عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة. وبعبارة واضحة: الشرك فيما يأتي به من أعمال الحجّ كالتلبية للأوثان والإهلال لها ونحوهما.
فتطهير بيته إمّا تنزيهه من الأرجاس المعنوية خاصّة بأن يشرّع إبراهيم عليه السلام للناس ويعلّمهم طريقاً من العبادة لا يداخلها قذارةُ شِرك، ولا يدنّسها دنَسُه، كما أمر لنفسه بذلك، وإمّا إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعمّ من الصورية والمعنوية، لكن الذي يمسّ سياق الآية منها هو الرجس المعنوي.

ضروب المنافع في الحجّ
* قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..﴾ الآيتان:27-28.
المنافع نوعان: منافع دنيوية، وهي التي تتقدّم بها حياة الإنسان الاجتماعية ويصفو بها العيش وتُرفع بها الحوائج المتنوّعة وتكمل بها النواقص المختلفة؛ من أنواع التجارة، والسياسة، والولاية، والتدبير، وأقسام الرسوم، والآداب والسنن والعادات، ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها.
فإذا اجتمع أقوامٌ وأممٌ من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها، على ما لهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثمّ تعارفوا بينهم، وكلمتُهم واحدة هي كلمة الحقّ، وإلههم واحد وهو الله عزّ اسمه، ووجهتُهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام، حملَهم اتّحادُ الأرواح على تقارب الأشباح، ووحدة القول على تشابه الفعل، فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه وأعطاه ما يُرضيه، واستعان قومٌ بآخرين في حلّ مشكلتهم وأعانوهم بما في مقدرتهم، فيُبَدّل كلّ مجتمع جزئي مجتمعاً أرقى، ثمّ امتزجت المجتمعات فكوّنت مجتمعاً وسيعاً له من القوّة والعدّة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أيّ قوة جبارة طاحنة.
ومنافع أخروية: وهي وجوه التقرّب إلى الله تعالى بما يمثّل عبودية الإنسان من قول وفعل. وعملُ الحجّ بما له من المناسك يتضمّن أنواعَ العبادات، من التوجّه إلى الله، وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش، والسعي إليه بتحمّل المشاقّ، والطواف حول بيته، والصلاة والتضحية والإنفاق والصيام وغير ذلك.

أوّلُ بيتٍ وُضع للناس
* قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الآية:29.
البيت العتيق هو الكعبة المشرّفة سمّيت به لقدمه، فإنّه أوّل بيت بُني لعبادة الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96، وقد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة وهو معمور، وكان له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين وخمسمائة سنة.

تعظيمُ الحُرُمات بعدم تعدّيها
قوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ الآية:30.
ندبٌ إلى تعظيم حرمات الله، وهي الأمور التي نهى عنها وضرب دونها حدوداً منع عن تعدّيها واقتراف ما وراءها، وتعظيمُها الكفُّ عن التجاوز إليها.
والذي يعطيه السياق أنّ هذه الجملة ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ..﴾ توطئةٌ وتمهيد لما بعدها من قوله: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ فإنّ انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يُفيد أنّ الأنعام - على كونها ممّا رزقهم الله وقد أحلّها لهم - فيها حرمة إلهية.

الحنيفيّة هي الميلُ عن الأغيار
* قوله تعالى: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ الآية:31.
الحنفاء جمع «حنيف» وهو المائل من الأطراف إلى حاقِّ الوسط. وكونهم ﴿حُنَفَاءَ للهِ﴾ ميلُهم عن الأغيار - وهي الآلهة من دون الله – إليه، فيتّحد مع قوله ﴿غَيرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ معنًى.
وهما - أعني قوله: ﴿حُنَفَاءَ للهِ﴾ وقوله: ﴿غَيرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ - حالان عن فاعل ﴿فَاجْتَنِبُوا﴾ [الآية 30 التي قبل هذه الآية] أي اجتنبوا التقرّب من الأوثان والإهلال لها، حال كونكم مائلين إليه تعالى عمّن سواه، غير مشركين به في حجّكم، فقد كان المشركون يلبّون في الحج بقولهم: «لبيك لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملكه وما ملك».
وقوله: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ﴾ أي تأخذه بسرعة، شبّه المشرك في شِركه وسقوطه به من أعلى درجات الإنسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، [شبّهه] بمَن سقط من السماء فتأخذه الطير.
وقوله: ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ أي بعيد في الغاية، وهو معطوف على ﴿فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ﴾ تشبيهٌ آخر من جهة البُعد.

اختصاصُ التّقوى بالقلب دون البدن
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الآية:32.
 ﴿ذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمرُ ذلك الذي قلنا، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله: الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته، والمراد بها البُدن التي تُساق هدياً وتُشعَر، أي يُشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليُعلم أنّها هدْيٌ على ما في تفسير أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وقوله: ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى. وإضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أنّ حقيقة التقوى - وهي التحرّز والتجنّب عن سخطه تعالى والتورّع عن محارمه - أمر معنويّ يرجع إلى القلوب، وهي النفوس. وليست هي [التقوى] جسد الأعمال التي هي حركات وسكنات، فإنّها مشتركة بين الطاعة والمعصية، ولا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان والطاعة ونحوها.

صفاتُ المُخبِتين
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الآيتان:34-35.
المعنى: ولكلّ أمّة - من الأمم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله. أي لستم، معشر أتباع إبراهيم، أوّل أُمّة شرعت لهم التضحية وتقريب القربان، فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.
وقوله: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ أي إذ كان الله، سبحانه، هو الذي شرع لكم وللأمم قبلكم هذا الحكم، فإلهكم وإله من قبلكم إلهٌ واحد، فأسلموا واستسلموا له بإخلاص عملكم له، ولا تتقرّبوا في قرابينكم إلى غيره.
وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ فيه تلويحٌ إلى أنّ مَن أسلم لله في حجّه مخلصاً فهو من المُخبتين، وقد فسّره بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾، وانطباق الصفات المعدودة في الآية وهي: الوجل، والصبر، وإقامة الصلاة، والإنفاق، على من حجّ البيت مسلماً لربّه معلوم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة