سياحة ثقافية

«المشاهدُ المكرّمة» في رحلةِ ابن جُبَير (1)


كان أبو الحسين محمّد بن أحمد بن جبير الأندلسيّ الشاطبي (توفّي سنة614 هـجريّة/1217م)، من علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث، قام برحلات ثلاث، أهمّها التي امتدّت قرابة ثلاث سنوات، حيث بدأها يوم الاثنين في التّاسع عشر من شهر شوّال سنة 578 هـجريّة، وختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرّم سنة 581 هـجريّة.
وقد وصف في هذه الرّحلة ما مرّ به من مدن، وما شاهد من عجائب البلدان، ووصفَ المساجد والمشاهد المطهّرة وصفاً دقيقاً، فيصف الأبنية الرّفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصّالحين والنّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام وصحابته والتّابعين لهم بإحسان، وكيف كانوا يتبرّكون بتلك المشاهد، ويعظّمونها، وينفقون المال الوفير في تشييدها والمحافظة عليها.

من تلك المشاهد التي عاينها ابن جبير على سبيل المثال:

المشاهد في مكّة المكرّمة
فعن رحلته إلى مكّة المكرّمة قال عند ذكر بعض مشاهدها المُعظّمة، وآثارها المقدّسة:
«فمن مشاهدها التي عاينّاها قبّة الوحي، وهي في دار خديجة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها ".." وقبّة صغيرة أيضاً في الدّار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزّهراء، رضي الله عنها "..". وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلَقة مصونة، قد بُنيت بناءً يليقُ بمثلها.
ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، والتّربة الطّاهرة التي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطّاهر، بُنِيَ عليها مسجد لم يُرَ أحفل بناء منه، أكثرُه ذهبٌ منزّلٌ به. والموضع المقدّس الذي سقط فيه، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ساعة الولادة السّعيدة المباركة التي جعلها الله رحمةً للأمّة أجمعين محفوفٌ بالفضّة. فيا لها تربة شرّفها الله بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام، صلّى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلّم تسليماً. يفتح هذا الموضع المبارك فيدخله الناس كافّة متبرّكين به في شهر ربيع الأوّل ويوم الإثنين منه، لأنّه كان شهر مولد النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم "..." وتفتح المواضع المقدّسة المذكورة كلّها. وهو يوم مشهودٌ بمكّة دائماً.
ومن مشاهدها الكريمة أيضاً، دار الخيزران، وهي الدّار التي كان النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، يعبد الله فيها سرّاً مع الطّائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه، رضي الله عنهم "..." وكانت بمقربة من الدّار التي نزلنا فيها دار جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، ذي الجناحين "..."
 وعلى مقربة من دار خديجة، رضي الله عنها، المذكورة، وفي الزّقاق الذي الدّار المكرّمة فيه مصطبة فيها متّكأ يقصد الناس إليها، ويصلّون فيها ويتمسّحون بأركانها، لأنّ في موضعها كان موضع قعود النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم».

وصفُ موضع ولادة رسول الله صلّى الله عليه وآله
وفي موضع آخر يقول ابن جبير عن بعض تلك المشاهد:
«في يوم الاثنين الثالث عشر منه [من شهر ذي القعدة] دخلنا مولد النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم, وهو مسجد حفيلٌ البنيان، وكان داراً لعبد الله بن عبد المطّلب، أبي النّبيّ "..." في وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر مطوّقة بالفضّة ".." ومسحنا الخدود في ذلك الموضع المقدّس الذي هو مسقطٌ لأكرم مولود على الأرض، ومَمَسّ لأطهر سلالة وأشرفها، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ونفعنا ببركة مشاهدة مولده الكريم. [هذه الدّار التي وُلِد فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وتحدّث عنها ابن جُبير، بُنِيَ في موضعها مكتبة تُعرف بـ «مكتبة مكّة المكرّمة»]
وبإزائه محراب حفيل القرنصة، مرسومة طرّته بالذّهب "..." وهذا الموضع المبارك هو شرقيّ بالكعبة، متّصل بصفح الجبل [صفحُ الجبل: مضطجعُه، كما في صّحاح الجوهري، وهو بمعنى السّفح أيضاً] ويشرف عليه بمقربة منه جبل أبي قُبيس، وعلى مقربة منه أيضاً مسجد، عليه مكتوب: هذا المسجد هو مولد عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، [لا يخفى على ذي بصيرة أنّ ولادة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام إنّما كانت في جوف الكعبة المشرّفة، وهو من الشّهرة والشيوع بحيث لا يحتاج إلى ذكر مصادره]؛ وفيه تربّى رسول الله، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وكان داراً لأبي طالب عمّ النّبيّ، صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وكافله "..".
ودخلتُ أيضاً في اليوم المذكور دار خديجة الكبرى، رضوان الله عليها، وفيها قبّة الوحي، وفيها أيضاً مولد فاطمة، رضي الله عنها. وهو بيت صغيرٌ مائلٌ للطّول "..".

المشاهد في المدينة المنوّرة:
وفي ذكر المشاهد المكرّمة بجبل أُحد، وببقيع الغرقد في مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله، يقول ابن جبير:

«فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة رضي الله عنه، وهو بقبلّي الجبل المذكور [جبل أُحد]، والجبل جوفيّ المدينة، وهو على مقدار ثلاثة أميال، وعلى قبره رضي الله عنه مسجدٌ مبنيّ، والقبر برَحبة جوفيّ المسجد، والشّهداء رضي الله عنهم بإزائه، وحول الشّهداء تربةٌ حمراء هي التّربة التي تنسَب إلى حمزة ويتبرّك النّاسُ بها».

ـــــــــــــــــ
مجلة شعائر  السنة الثالثة  العـدد الحادي والثلاثون

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة