سياحة ثقافية

«المشاهدُ المكرّمة» في رحلةِ ابن جُبَير (2)


بقيع الغَرقَد
يُردفُ ابن جُبَير فيقول: «وبقيعُ الغرقد شرقيّ المدينة، تخرج إليه على باب يعرَف بباب البقيع، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهد صفيّة عمّة النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم "..." وأمام هذه التّربة قبر مالك بن أنس الإمام المدنيّ رضي الله عنه، وعليه قبّة صغيرة مختصرة البناء، وأمامه قبر السّلالة الطّاهرة إبراهيم ابن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وعليه قبّة بيضاء، وعلى اليمين منها تربة ".." وبإزائها قبر عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن جعفر الطّيّار رضي الله عنه، وبإزائهم روضة فيها أزواج النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

بيتُ الأحزان
ويليها [أي يلي الرّوضة التي فيها ثلاثة من أولاد النبيّ صلّى الله عليه وآله] روضةٌ العبّاس بن عبد المطلب والحسن بن عليّ رضي الله عنهما، وهي قبّة مرتفعة في الهواء على مقربةٍ من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ".." وقبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مغشّيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق، مرصّعة بصفائح الصّفر [صفائح النّحاس]، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر، وعلى هذا الشّكل قبر إبراهيم ابن النّبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ويلي هذه القبّة العبّاسيّة بيت يُنسب لفاطمة بنت الرسول صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، ويعرفُ ببَيت الحزن، يقال: إنّه الذي أوتْ إليه والتزمت فيه الحزنَ على موت أبيها المصطفى صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.
وفي آخر البقيع ".." مشهد فاطمة ابنة أسد، أمّ عليّ رضي الله عنها وعن بَنيها. ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى، لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصّحابة المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم أجمعين، وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب: "ما ضمّ قبرُ أحد كفاطمة بنت أسد" رضي الله عنها وعن بنيها».

المشاهد في مصر
1- مشهد رأس الحسين عليه السلام بالقاهرة: يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة:
«فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يُمسِكُها الله عزّ وجلّ، فمن ذلك المشهد العظيم الشّأن الذي بمدينة القاهرة، حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضّة مدفونٌ تحت الأرض، قد بُنيَ عليه بُنيانٌ حفيلٌ يقصُر الوصفُ عنه، ولا يحيط الإدراكُ به».
ويصفه ابن جبير وصفاً تامّاً إلى أن يقول:
«ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك، حجرٌ موضوع في الجدار الذي يستقبله الدّاخل، شديدُ السّواد والبَصيص، يصف الأشخاصَ كلَّها، كأنّه المرآة الهنديّة الحديثة الصّقل. وشاهدنا من استلام النّاس للقبر المبارك، وإحداقِهم به، وانكبابهم عليه، وتمسُّحهم بالكسوة التي عليه، وطوافهم حوله، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التّربة المقدّسة ومتضرّعين، ما يُذيبُ الأكباد ويصدعُ الجماد، والأمر فيه أعظم، ومرأى الحال أهول، نفعَنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم.

2- مشاهد الأنبياء: يقول ابنُ جبير عن الجبّانة المعروفة في القاهر باسم «القرافة»:
«وهي أيضاً إحدى عجائب الدّنيا، لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصّحابة والتّابعين والعلماء والزّهّاد والأولياء... فمنها قبر ابن النّبيّ صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرّحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرّجال، وخمس من النساء.
وعلى كلّ واحد منها بناء حَفْل. فهي بأسرها روضاتٌ بديعة الإتقان عجيبة البُنيان، قد وُكِّل بها قومٌ يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرُها منظرٌ عجيب، والجرايات متّصلة لقوّامها في كلِّ شهر».

3- مشاهد أهل البيت عليهم السلام: ثمّ يعدِّد ابن جبير مشاهد أهل البيت عليهم السلام فيقول:
«مشهدُ عليّ بن الحسين بن عليّ رضي الله عنه [هذا المشهد للإمام السجّاد عليه السلام ما زال قائماً، إلّا أنّ مدفنَه الشّريف في البقيع كما هو معروف] ومشهدان لابْنَيْ جعفر بن محمّد الصّادق رضي الله عنهم، والقاسم بن محمّد بن جعفر الصّادق بن محمّد بن عليّ زين العابدين المذكور، رضي الله عنهم، ومشهدان لابنَيه الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم رضي الله عنهم، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد عليّ بن عبد الله بن القاسم، رضي الله عنهم، ومشهد أخيه عيسى بن عبد الله، رضي الله عنهما، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن، رضي الله عنهم، ومشهد محمّد بن عبد الله بن محمّد الباقر بن عليّ بن زين العابدين بن الحسين بن عليّ، رضي الله عنهم، ومشهد جعفر بن محمّد من ذرية عليّ بن الحسين، رضي الله عنهم».

4- مشاهد الشّريفات العلويّات رضي الله عنهنّ: وأما عن مشاهد النساء، فيقول ابن جبير:
«مشهد السيّدة أمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمّد بن جعفر، رضي الله عنهم، ومشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين، رضي الله عنهم، ومشهد أمّ كلثوم ابنة محمّد بن جعفر الصّادق رضي الله عنهم، ومشهد السيّدة أم عبد الله بن القاسم بن محمّد، رضي الله عنهم.
وهذا ذكر ما حصله العيان من هذه المشاهد العلويّة المكرّمة وهي أكثر من ذلك. وأُخبرنا أن في جملتها مشهداً مباركاً لمريم ابنة عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه. وهو مشهور لكن لم نعاينه. وأسماء أصحاب هذه المشاهد المباركة، إنما تلقيناها من التّواريخ الثّابتة عليها مع تواتر الأخبار بصحّة ذلك، والله أعلم بها ".."».

5- مشاهد الصّحابة: وذكر ابنُ جبير عدداً آخر من المشاهد في القرافة فقال:
«مشهد معاذ بن جبل رضي الله عنه ".." مشهد محمّد بن أبي بكر ".." مشهد أحمد بن أبي بكر ".." مشهد أسماء ابنة أبي بكر ".." مشهد عبد الله بن حذافة السّهميّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم؛ مشهدُ ابن حليمة السّعديّة حاضنة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم».

6- مشاهد الأئمّة العلماء الزهّاد: وعن مشاهد الأئمّة العلماء الزهّاد قال ابنُ جُبَير:
«مشهد الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو من المشاهد العظيمة احتفالاً واتّساعاً، وبُني بإزائه مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها ".." يخيّل لمن يطوف عليها أنّها بلدٌ مستقلٌّ بذاته، بإزائها الحمّام، إلى غير ذلك من مرافقها، والبناءُ فيها حتى السّاعة، والنَّفَقة عليها لا تُحصى، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزّاهد العالم المعروف بنجم الدين الخُبُوشاني ".."».

ثم ّيذكر مشاهد أخرى فيقول:
«مشهد المُزَنّي صاحب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه ".." مشهد ذي النون ابن إبراهيم المصريّ رضي الله عنه، مشهد القاضي الأنباريّ، قبر النّاطق الذي سُمِع عند وضعه في لحدِه يقول: اللّهمّ ﴿...أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾المؤمنون:29 ".." مشهد المُقرئ ورش؛ مشهد الطّبريّ ".." والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبط بالتّقييد أو تتحصّل بالإحصاء، وإنّما ذكرنا منها ما أمكنَتنا مشاهدتُه ".."».

ـــــــــ
مجلة شعائر السنة الثالثة العـدد الحادي والثلاثون

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة