من التاريخ

حوار نصارى نَجْران.. والمباهلة (2)


مَنْ طَلَب المُلاعنة والمباهلة؟
تتحدَّث المصادر عادةً عن نزول آية المباهلة وما جرى بعدها، وهو ما يوحي بأنَّ طَلَب المباهلة كان من النَّبيّ صلّى الله عليه [وآله] بأمر الوَحْي، إلَّا أنَّ السّيوطي في (الدرّ المنثور) أَوْرد بين الرِّوايات المتعدِّدة، رواية تُصرِّح بأنَّ وفد نجران هو الذي طَلَب المُلاعنة.
قال السّيوطي: «أخرج الحاكم وصحَّحه عن جابر أنّ وفد نجران أتوا النّبيّ صلّى الله عليه [وآله]، فقالوا: ما تقول في عيسى؟
فقال: هو روح الله وكلمتُه وعبدُ الله ورسولُه.
قالوا له: هل لك أن نُلاعنك أنّه ليس كذلك؟
قال: وذاك أحبُّ إليكم؟
قالوا: نعم.
قال: فإذا شئتُم.
فجاء وجَمَعَ ولده الحسن والحسين، فقال رئيسهم لا تُلاعنوا هذا الرَّجل، فوالله لَئِن لاعَنْتُموه لَيُخسَفَنَّ بأحد الفريقين. فجاؤوا فقالوا: يا أبا القاسم، إنّما أراد أن يُلاعنك سفهاؤنا، وإنّا نحبُّ أن تعفينا.
قال: قد أعفيتُكُم. ثمّ قال: إنَّ العذاب قد أظلَّ نجران».
حصلت المباهلة.. لم تحصل؟

• يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم
معرفة النّصارى برسول الله  صلّى الله عليه وآله، مِحْوَرٌ بالغ التَّأثير بحساسيّة مُتميِّزة في امتناع  علماء نصارى نجران عن المباهلة، فقد بشَّر النّبيّ عيسى على نبيِّنا وآله وعليه السَّلام، برسول الله صلّى الله عليه وآله،  فزاد على بشارات الأنبياء السَّابقين بشائر أتاحت للنَّصارى أن يَعرفوا رسول الله صلّى الله عليه وآله، معرفة تامّة وافية، وقد تقدَّم في ما أورده السّيوطي قول شرحبيل للأسقف حين استشاره: «قد علمتَ ما وَعَد الله إبراهيم في ذرِّيَّة إسماعيل من النُّبوة، فَمَا يؤمَن أن يكون هذا الرَّجل؟».
قال أسقف نجران: يا معشر النَّصارى!!
إنّي لَأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جبلاً

عن مكانه لَأزاله بها، فلا تُباهلوا فتَهلكوا  وقد أورد الفخر الرَّازي في تفسيره، قول أبي حارثة لأخيه كُرز في طريق وفد نجران إلى المدينة: «إنّه والله النّبيّ الذي كنَّا نَنْتظره، فقال له أخوه كُرز: فما يَمنعك منه وأنت تَعلم هذا، قال: لأنَّ هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا، فلو آمنّا بِمحمَّد صلّى الله عليه [وآله]، لَأخَذوا منَّا كلَّ هذه الأشياء، فوقع ذلك في قلب أخيه كُرز، وكان يُضمره إلى أنْ أَسلَم فكان يحدِّث بذلك».
رسول الله مُحتضناً الحسين، آخذاً بِيَد الحسن..
تُجمِع المصادر المختلفة على أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، توجَّه صبيحة الرّابع والعشرين من ذي الحجَّة، إلى مكان اللِّقاء المُقرَّر أن تَجري المباهلة فيه، ومعه أمير المؤمنين عليٌّ والزهراء، والحسنان صلّى الله عليهم أجمعين، وتختلف عبارات المصادر في بيان هذه الحقيقة المُجمع عليها:
قال الزّمخشري في تفسيره (الكشّاف): «غدا رسول الله مُحتضِناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تَمشي خلفه وعليٌّ خلفها، وهو يقول: إذا أنا دَعَوْت فأمِّنُوا..». (أنظر في هذا الملف، المزيد من كلمات الأعلام في مختلف المصادر الأم، بعنوان «وقائع المباهلة في المصادر الإسلاميّة»).

وقد تلقَّت الأمَّة بأجيالها كلّ الدلالات الإلهيّة البليغة لهذا المشهد الرَّبَّاني الفريد الذي جمع الأنوار الخمسة «أهل الكساء»، وهي نفسها الأنوار التي خَلَقها الله تعالى قبل خَلْق النّبيّ آدم عليه السلام، وقد جاءت يوم المباهلة لتؤكِّد أنَّ مستقبل البشريّة والعالَم -بمشيئة الله تعالى- يَدور مدارها بدءاً واستمراراً، عقيدة وانتظام حياة.
 خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد احتَضَن الحسين عليه السلام، وأخذ بِيَدِ الحسن عليه السلام، وفاطمة عليها السلام تمشي خلفه، والإمام عليّ عليه السلام خلفها، وهو صلّى الله عليه وآله يقول: إذا دَعوْتُ فأمِّنوا. يجب الوقوف طويلاً عند دلالة آية المباهلة على أنَّ أمير المؤمنين هو نَفْس رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنَّ مقياس المحمَّديَّة البيضاء فاطميّ، كما يجب الوقوف طويلاً عند دلالة  احتضان رسول الله صلّى الله عليه وآله الحسين عليه السلام، آخذاً بِيَد الحسن عليه السلام، على أنَّ نهج الحسنَيْن تظهير النهج المُحمَّدي الإلهي، ولا وصول إلى رسول الله إلَّا مِن باب الحسَنَيْن، مع خصوصيّة في الحسين تَتَماهى وتَتَّحِد مع كَوْنِه «المُعوَّض من شهادته أنَّ الأئمَّة مِن عترته..»، بِمَا يَعنيه ذلك من ارتباط بقاء النِّظام الكَوْني ودوامه بإذن الله تعالى، بالحسين وذريَّة الحسين عليهم الصلاة والسلام.

قال المفسِّر الشَّهير البيضاوي:
«رُوِي أنَّهم لمَّا دعوا إلى المباهلة قالوا حتّى نَنْظر، فلمّا تخالَوْا قالوا للعاقب -وكان ذا رأيهم-: ما ترى؟
فقال: والله لقد عرفتُم نبوَّته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم. والله ما باهلَ قومٌ نبيّاً إلَّا هلكوا، فإنْ أبَيْتُم إلَّا إلْفَ دينِكم، فوادِعوا الرَّجل وانصَرِفوا.

فأتوا رسول الله صلّى الله عليه [وآله]، وقد غَدا مُحتضِناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ رضي الله عنه خلفها، وهو يقول إذا أنا دَعَوْتُ فأمِّنوا، فقال أسقفهم: يا معشر النّصارى، إنِّي لَأَرى وجوهاً لوْ سَألوا الله تعالى أن يُزيل جبلاً من مكانه لَأَزاله، فلا تُباهلوا فتَهلكوا، فأذْعِنوا لِرَسول الله صلّى الله عليه [وآله]، وبَذَلوا له الجِزْية ألفي حلَّةٍ حمراء، وثلاثين درعاً من حديد فقال صلّى الله عليه [وآله]: والّذي نفسي بيده، لوْ تباهلوا لَمُسِخوا قردةً وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأْصَلَ الله نجران وأهله، حتّى الطَّير على الشَّجر».
وخَتَم البيضاوي في تفسيره بقوله: «وهو دليلٌ على نبوَّته، وفضلِ مَن أتى بهم من أهل بيتِه».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة