علمٌ وفكر

الغيب والشهادة في الفيزياء والفلسفة (3)


السيد منير الخباز

المحور الثالث: تحليل النصوص القرآنية والحديثية التي تتكلم عن الغيب.
عندنا ثلاث آيات وقع الإشكال في فهم معناها.

الآية الأولى:
قوله عز وجل: ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، هذه الآية كيف نجمع بينها وبين قوله عز وجل في آية أخرى عن عيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ يعني أنا أعلم الغيب، كيف نوفق بين هذه الآية وبين قوله عز وجل في الآية التي افتتحنا بها المحاضرة: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾، إذا ارتضى الرسول أظهره، ولذلك ورد عن الإمام الصادق في بعض الروايات: ”ومحمد هو المرتضى ونحن ورثته“، إذن كيف نجمع بين الآيتين؟
الجمع بين الآيتين بالفرق بين الأصالة والتبعية، بين الاستقلال والإذن، كيف؟ هاتان الآيتان تشبههما آيتان، وهما قوله عز وجل: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾، يعني التوفي بيد الله، بينما يقول في آية أخرى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، كيف نجمع بينهما؟ التوفي من الله، والتوفي من قبل ملك الموت، الجمع بينهما بالاستقلال والتبعية، الذي يتوفى العباد بالاستقلال والأصالة هو الله، وأما الذي يتوفى العباد بالإذن وبالإقدار من الله عز وجل فهو ملك الموت، ملك الموت يتوفى العباد لكن يتوفى بإذن من الله، بإقدار من الله، لا بالأصالة والاستقلال.
هنا أيضًا الجمع بين الآيتين، عندما يقول: ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ يعني لا يعلم بالأصالة والاستقلال الغيب إلا الله، ولكن الرسول كعيسى والنبي   يعلمون الغيب، ليس بالأصالة والاستقلال، وإنما بالتعليم والإذن والإقدار من الله تبارك وتعالى، فهذا هو الجمع بين الآيتين.

الآية الثانية:
قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، يعني هناك خمسة أشياء خاصة بالله، بل وردت عندنا روايات عن أبي أسامة عن الإمام الصادق  : ”خمسة لم يطلع الله عليها أحدًا من خلقه، قلت: ما هي سيدي؟ قال: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾“، كيف نجمع بين هذه الآية وبين ما ورد مستفيضًا من أنَّ محمدًا وآل محمد يعلمون بمناياهم وبلاياهم، يعلمون بما يجري عليهم من المنايا والبلايا، يعلمون بذلك، بينما هذه الآية تقول: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، كيف نوفّق بين الأمرين؟
نأتي إلى هذه الفقرة: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾، الآن الطب يستطيع أن يعلم ما في الأرحام، يستطيع أن يعرف هل هذا ذكر أم أنثى، وهنالك فرضيات طبية ستتحقق في المستقبل بواسطة الاكتشافات أنه يمكن من الأسبوع الأول يعيَّن لون الشعر، طول القامة، صفات الجسد، كلها يمكن تحديدها من الأسبوع الأول، إذن الطب توصّل إلى فهم ما في الأرحام، إلى علم ما في الأرحام، فكيف تقول الآية: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ يعني غيره لا يعلم؟

الجواب: هناك فرق بين العلم المحدود والعلم اللامحدود، الطبيب عندما يصل إلى درجة يعلم أن هذا... لنفترض أنه من أول يوم، من الدقيقة الأولى، لنفترض أنّ الطبيب وصل إلى هذه الدرجة، من الثانية الأولى لانعقاد النطفة في رحم المرأة الطب يستطيع أن يحدد، ذكر أم أنثى، لون البشرة، طول القامة، وظائف الأعضاء، يمكن أن يحدّد ذلك كله من أول ثانية، مع ذلك يبقى هذا العلم علمًا محدودًا، لأنه علم بالمادة، علم بالخصائص المادية فقط، لكن لا يستطيع هذا الطبيب أن يكتشف أنّ من في الأرحام سعيد أم شقي، صالح أم فاسد، يكتشف فقط الخصائص المادية، ولذلك سئل الإمام الكاظم  : ما معنى قول النبي  : ”السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه“؟ قال: ”السعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه يعمل عمل السعداء، والشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه يعمل عمل الأشقياء“، إذن تحديد السعادة والشقاوة لا يمكن أن يكتشفها الإنسان. بالنتيجة: علم الطب ما في الأرحام علم محدود، وعلم الله بما في الأرحام علم لامحدود، لأنه علم بكل الخصائص المادية والروحية والعلل والمعاليل واللوازم.

نفس الكلام في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، علم المعصوم   بالمنايا والبلايا بالنتيجة هو علم محدود، لأن المعصوم ممكن الوجود، وكل ممكن الوجود فهو محدود، بالنتيجة هناك فرق بين واجب الوجود وممكن الوجود، واجب الوجود الواحد الأحد جل وعلا وجود لامحدود، فعلمه علم لامحدود، بينما ما سواه ممكن الوجود، وممكن الوجود لا محالة محدود، إذن العلم علم محدود، علم المنايا، علم البلايا، علم ما كان، علم ما يكون، بالنتيجة هو علم محدود، فإذا علم بما يكسب غدًا أو علم في أي تموت أو علم بمناياه وبلاياه بالنتيجة هو علم محدود، وأما العلم بهذه الأمور على نحو العلم المطلق واللامحدود فهو من مختصاته تبارك وتعالى.

الآية الثالثة:
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ثم قال: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، هذه الفقرة معناها أنَّ النبي لا يعلم، هو يقول: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، لكن أنا لا أعلم، فكيف نوفق بين هذه الآية وبين النصوص التي تقول: إنَّ المعصوم يعلم الغيب؟

هنا تفسيران:
التفسير الأول: أنَّ المقصود من ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ الغيب المعهود في الآية الأولى، الآية الأولى تحدثت عن علم الساعة، يعني عن نوع معين من علم الغيب، حصة معينة من علم الغيب، ألا وهي علم الساعة، فبما أنَّ الآية الأولى دلّت على علم معيّن الآية الثانية ناظرة للآية الأولى، ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ يعني أعلم هذا الغيب الذي تحدّثنا عنه في الآية الأولى، وهو العلم بوقت الساعة ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾، إذن عدم علمه بوقت الساعة لا يعني عدم علمه بغيره من أنواع وألوان الغيوب، هذا لا ينفي علم الغيب أصلًا عن النبي.
التفسير الثاني: أنَّ هذا الجواب جواب إقناعي وليس جوابًا حقيقيًا، يعني لأجل سدّ باب الهرج والمرج، وإلا فهو ليس جوابًا حقيقيًا، يعني لو أنَّ النبي   قال: أنا أعلم الغيب، لانفتح باب الدعاوى، صار كل واحد يقول: أنا أيضًا أعلم الغيب! ما هو الفرق؟! هو بشر وأنا بشر، إذا هو يعلم الغيب فأنا أيضًا أعلم الغيب! فمن أجل سدّ باب هذه الدعاوى، حتى لا ينفتح باب هذه الدعاوى أمره الله أن يقول للناس: ﴿لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾، يعني قل لهم هذا الجواب، لا أنك لا تعلم الغيب، إنما ينبغي لك أن تقول هذا الجواب إذا سألك أحد لئلا ينفتح باب الهرج والمرج، وتكثر دعاوى علم الغيب لدى الإنسان.

هذه الآية حينئذ يكون مضمونها شبيهًا بما ورد عن الإمام الصادق  ، سدير أصحاب الإمام الصادق، يقول: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزّاز وداود بن كثير عند مولانا الصادق  ، فخرج علينا مغضبًا، فلمّا أخذ مجلسه قال: عجبًا لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله، إني هممت أن أضرب جاريتي فهربت مني، وما علمت في أيّ بيوت الدار هي. إذن، هذه الرواية إذا أخذنا بهذه القطعة منها تدلّ على أنَّ الإمام لا يعلم الغيب، يقول عن نفسه: أنا لا أعلم الغيب، وحتى الجارية لا أعلم إلى أين ذهبت.
لكن فلنقرأ بقية الرواية، يقول سدير: فلما خرج من المجلس خرجت معه أنا وأبو بصير وقلنا: يا أبا عبد الله، كيف قلت أنك لا تعلم الغيب ونحن نعلم أنك تعلم علمًا كثيرًا، ولا ننسبك إلى علم الغيب؟ فقال: يا سدير، هل قرأت القرآن؟ قلت: بلى، قال: هل وجدت فيما قرأت قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾؟ قال: نعم قرأتها، قال: ما معنى أنّ عنده علمًا من الكتاب؟ قلت: لا أدري، قال: قطرة من البحر الأخضر، يا سدير هل وجدت فيما قرأت قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾؟ قلت: بلى، قال: فأيهما أكثر فهمًا من عنده علم من الكتاب أم من عنده علم الكتاب كله؟ قلت: سيدي بل من عنده علم الكتاب كله أكثر فهمًا، قال: يا سدير، إنّ علم الكتاب كله عندنا، وأشار إلى صدره.

إذن الجواب الذي ذكره الإمام في مجلسه غير الجواب الذي أبرزه للعارفين، طرح جوابًا لسدّ باب الهرج والمرج، حتى لا يدّعي كل شخص أنه يعلم الغيب، لكن هذا لا ينفي حقيقة أنّ لدى الإمام علمًا لدنيًا، علمًا بالكتاب كله، كما قال الإمام الصادق   في معتبرة أبي بصير: ”إنَّ لله علمين: علمًا استأثر به عنده لم يطلع عليه أحدًا من خلقه، وعلمًا أنفذه إلى ملائكته ورسله، فما أنفذه إلى ملائكته ورسلته فقد انتهى إلينا“، ومن أوضح الروايات التي تدلّ على علمهم بمناياهم وبلاياهم إخبارهم بما يجري عليهم، ومنها ما ورد عن الحسين   عندما وقف على الصفا وقال: ”خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلا، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشًا جوفى وأجربة سغبى، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت“.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة