من التاريخ

جانب من أوضاع الشيعة في زمن إمامة السجّاد (عليه السلام)


كان لحادثة كربلاء الأليمة، وما جرى على سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ومن معه انعكاسات خطيرة على الشيعة في زمن الإمام السجاد (عليه السلام). ولهذا يمكن القول إن فترة إمامة السجاد (عليه السلام) كانت فترة رافقها العديد من الأحداث، منها:

-1 القمع والخوف والضعف:
لقد كان الوضع بعد عاشوراء، بالنّسبة للشّيعة والمعتقدين بخطّ الإمامة، وضعًا مذهلًا. فوحشيّة عملاء وجلاوزة الأمويّين، وما فعلوه بآل النبيّ، سواءٌ أفي كربلاء أم في الكوفة أم في الشّام، أرعب كلّ من كان على اتّصال بخطّ الإمامة. كما أنَّ زبدة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام قد استُشهدوا في كربلاء أو في واقعة التوّابين، أمّا الّذين بقوا فلم يمتلكوا الجرأة الّتي تخوّلهم الوقوف وقول كلمة الحقّ مقابل سلطة يزيد المتجبّر، وفيما بعد مروان. جمعٌ مؤمن، لكنّه مشتّت وغير منظّم ومرعوب، وقد انصرف من النّاحية العمليّة عن طريق الإمامة. هذا هو الإرث الّذي بقي للإمام السّجّاد (عليه السلام) من جمع الشّيعة، القمع الكثير والجماعة المناصرة الضّعيفة جدًّا.
عندما جرت واقعة كربلاء، سيطرت على العالم الإسلاميّ كافة، وخاصّة عندما وصل الخبر إلى الحجاز والعراق، حالةٌ من الرعب والخوف الشّديدين بين الشّيعة وأتباع الأئمّة، لأنّهم شعروا أنّ حكومة يزيد لا تتوّرع عن ارتكاب أيّ شيء لإحكام قبضتها على كلّ شيء، حتّى ولو كان قتل الحسين بن علي عليه السلام، سبط الرّسول المعروف بالعظمة والاعتبار والقداسة في كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ.
هذا الرعب من الجهاز الحاكم، الّذي ظهرت آثاره في الكوفة والمدينة، بلغ ذروته بعد مرور زمان معيّن، إثر وقوع عدّة حوادث أخرى - إحداها حادثة الحرّة - فسيطر جوّ القمع الشّديد في منطقة نفوذ أهل البيت عليهم السلام في الحجاز (وخاصّة المدينة)، وفي العراق (وخاصّة الكوفة). فضعفت الاتّصالات، وصار أتباع الأئمّة والمعارضون لنظام بني أميّة أقليّة، وفي حالة ضعف وعدم ثبات.
وتُنقل رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في الحديث عن أوضاع الأئمّة الّذين سبقوه: "ارتدّ النّاس بعد الحسين عليه السلام إلّا ثلاثة..."1، وذُكر في روايةٍ أخرى أنّهم خمسة، وفي بعضها أنّهم سبعة. وفي رواية عن الإمام السجّاد عليه السلام - يرويها أبو عمر النهديّ - يقول: سمعت عن الإمام أنّه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يُحبّنا"2.
وقد نقلتُ هذين الحديثين في هذا المجال، حتّى يتّضح الوضع العامّ لعالم الإسلام بالنسبة للأئمّة وأتباعهم. فهذا القمع الّذي حدث، أوجد مثل تلك الحالة الّتي صار فيها أتباع الأئمّة عليهم السلام متفرّقين آيسين خائفين، لا يملكون القدرة على التحرّك الجماعيّ.

-2 ظهور التشكيلات الشيعيّة السريَّة رغم حالة القمع:
في تلك الرّواية التي ذكرناها عن قلة الأنصار، وارتداد النَّاس، يُكمل الإمام الصادق عليه السلام القول: "ثمّ إنّ النّاس لحقوا وكثروا"3.
وتفصيل القضيّة المذكورة هو: بعد واقعة شهادة الإمام الحسين عليه السلام صار النّاس في خوفٍ ورعب، لكن ليس إلى درجة زوال تشكيلات أتباع أهل البيت. ودليل ذلك أنّه في الوقت الّذي جاؤوا بأسرى كربلاء إلى الكوفة، شوهدت التحرّكات الّتي تدلّ على وجود التنظيمات الشيعيّة.
وعند الحديث عن "التنظيمات الشيعيّة السرّيّة" لا نقصد نمط التنظيمات الموجود في هذا العصر، بل المقصود تلك الرّوابط العقائديّة الّتي كانت تصل النّاس بعضهم ببعض وتحملهم على التّضحية والأعمال السرّيّة، والّتي تؤلّف في أذهاننا مجموعة واحدة.
في تلك الأيّام الّتي كان فيها أهل البيت عليهم السلام في الكوفة، يسقط في إحدى الليالي حجرٌ في السجن الّذي كانوا فيه، وإذ بالحجر ورقة كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلًا إلى يزيد في الشّام حتّى يعلم ماذا يفعل بكم، فإذا سمعتم غدًا ليلًا صوت تكبير فاعلموا أنّكم ستُقتلون ها هنا، وإذا لم تسمعوا فاعلموا أنّ الوضع سيتحسّن"4. عندما نسمع بمثل هذه القصّة نُدرك جيّدًا وجود شخص من الأصدقاء وأعضاء هذه التّنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد، يعلم القضايا، وتطال يده السّجن، ويعلم ما هي الإجراءات بحقّ المعتقَلين، وما سيجري عليهم، ويُمكنه بالتّكبير أن يوصل الأخبار. وبالرغم من كلّ القمع والتّشديد، كانت تُشاهد مثل هذه الأمور.
مثال آخر: عبد الله بن عفيف الأزديّ، الرّجل الأعمى الّذي قام بردّة الفعل الأولى عند ورود الأسرى إلى الكوفة، وأدّى ذلك إلى استشهاده. وكذلك ما رأيناه في الشّام أو في الكوفة عندما التقى النّاس بأهل البيت بالبكاء والتلاوم، وقد تكرّرت هذه الحوادث في مجلس يزيد، وفي مجلس ابن زياد أيضًا.

بناءً على هذا، ومع فرض جوّ من القمع الشّديد بعد هذه الحادثة، لم ينهدم نظام عمل أتباع أهل البيت عليهم السلام، ولم يحصل لهم التشتّت والضّياع. ولكن بعد مرور مدّة وقعت حوادث أخرى، ازداد معها جوّ القمع. ومن هنا يُمكن فهم الحديث "ارتدّ النّاس بعد الحسين" بأنّه يرتبط بمرحلة تلك الأحداث أو ما بعدها، أو مرتبطٌ بالمقاطع الزمنيّة الّتي حصلت في هذا المجال.
وخلال هذه المرحلة - قبل وقوع تلك الحادثة المهمّة والمفجعة - قام الشّيعة بترتيب وتنظيم أعمالهم، واستعادة انسجامهم السّابق. وينقل الطبريّ قائلًا: "فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب، والاستعداد للقتال"5، وهو يقصد الشّيعة في طلب الثّأر لدماء الحسين بن علي عليه السلام. وكانوا يدعون النّاس من الشّيعة وغيرهم، ويستجيب لهم النّاس جماعات جماعات. وقد استمرّ هذا الوضع إلى أن هلك يزيد بن معاوية.

ولهذا نجد مع كلّ هذا الضّغط والقمع الشّديد، استمرار التحرّكات - كما ينقل الطبريّ-، ولعلّه لهذا السّبب تقول مؤلّفة كتاب "جهاد الشّيعة" (وهي كاتبة غير شيعيّة، ولا تمتلك رؤية واقعيّة تجاه الإمام السجاد عليه السلام، لكنّها أدركت هذه الحقيقة): "أصبح الشّيعة بعد شهادة الحسين عليه السلام كتنظيمٍ واحدٍ تجمعهم الاعتقادات والروابط السّياسيّة، ويعقدون الاجتماعات، ولهم القادة والقوى العسكريّة. وكان التوّابون أوّل مظهر لهذه التنظيمات"6.
________________________________________
-1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 46، ص 144.
-2 م. ن، ص 143.
-3 م. ن، ص 144.
-4 نقل ابن الأثير هذه القصة في تاريخه الكامل الكاتب - .
-5 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص 356، نقلاً عن تاريخ الطبريّ، ج 5، ص 558.
-6سميرة مختار الليثيّ، جهاد الشيعة، ص 27.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة