علمٌ وفكر

البداء

 

السيد عبد الحسين شرف الدين
يعتقد الشيعة: بان الله عز وجل قد يعتقد شيئا ثم يظهر له ان الامر بخلاف ما اعتقد !!
وقد زعم النواصب أنا نقول: بأن الله عز وجل قد يعتقد شيئًا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقد، وهذا إفك منهم وبهتان، وظلم لآل محمد وعدوان، وحاشا أهل البيت وأولياءهم أن يقولوا بهذا الضلال المبين المستحيل على الله عزوجل، فإن علم الله تعالى عين ذاته عندهم، فكيف يمكن دخول التغيير والتبديل فيه لو كان النواصب ينصفون؟ وحاصل ما تقوله الشيعة هنا: إن الله عزوجل قد ينقص من الرزق وقد يزيد فيه، وكذا الأجل والصحة والمرض والسعادة والشقاء، والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ 1.


وهذا مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود 2 وأبي وائل وقتادة 3 وقد رواه جابر عن رسول الله وكان كثير من السلف الصالح يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا في أدعيتهم المأثورة، وورد في السنن الكثيرة أن الصدقة على وجهها، وبر الوالدين، واصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة، ويزيد في العمر 4 وصح عن ابن عباس أنه قال: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر 5.
هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة تجوزوا في إطلاق البداء عليه بعلاقة المشابهة، لأن الله عزوجل أجرى كثيرًا من الأشياء التي ذكرناها على خلاف ما كان يظنه الناس فأوقعها مخالفة لما تقتضيه الإمارات والدلائل، وكان مآل الأمور فيها مناقضًا لأوائلها، والله عزوجل هو العالم بمصيرها ومصير الأشياء كلها، وعلمه بهذا كله قديم أزلي، لكن لما كان تقديره لمصير الأمور فيها يخالف تقديره لأوائلها، كان تقدير المصير أمرًا يشبه البداء، فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا اللفظ مجازًا، وكأن الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوز.


وبهذا رد بعض أئمتنا قول اليهود: إن الله قدر في الأزل مقتضيات الأشياء، وفرغ الله من كل عمل إذ جرت الأشياء على مقتضياته، قال عليه السلام: بأن لله عزوجل في كل يوم قضاء مجددًا بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهرًا لهم، وما بدا لله في شيء إلا كان في علمه الأزلي.
فالنزاع في هذه المسألة بيننا وبين أهل السنة لفظي، لأن ما ينكرونه من البداء الذي لا يجوز على الله عزوجل تبرأ الشيعة منه، وممن يقول به براءتها من الشرك بالله ومن المشركين، وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه يقول به عامة المسلمين، وهو مذهب عمر بن الخطاب وغيره كما سمعت، وبه جاء التنزيل ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ 1.
﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ 6 أي كل وقت وحين يحدث أمورًا ويجدد أحوالًا من إهلاك وإنجاء وحرمان وإعطاء، وغير ذلك كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قيل له: ما ذلك الشأن؟ فقال: من شأنه سبحانه وتعالى أن يغفر ذنبًا ويفرج كربًا ويرفع قومًا ويضع آخرين.


هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسميه بداء، وغير الشيعة يقولون به، لكنهم لا يسمونه بداء، فالنزاع في الحقيقة إنما هو في تسميته بهذا الاسم وعدم تسميته به.
ولو عرف غير الشيعة أن الشيعة إنما تطلق عليه هذا الاسم مجازًا لا حقيقة لتبين حينئذ لهم أن لا نزاع بيننا وبينهم حتى في اللفظ لأن باب المجاز واسع عند العرب إلى الغاية، ومع هذا كله فإن أصر غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى التجوز بإطلاق البداء على ما قلناه، فنحن نازلون على حكمه فليبدل لفظ البداء بما يشاء ﴿ ... وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ... ﴾ 7 في أخيه المؤمن ﴿ ... وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ... ﴾ 7 ﴿ ... وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ 8  ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... ﴾ 9 10.
•  ــــــــــــــــ
1. a. b. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 39، الصفحة: 254.
•  2. نقله عنهما فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية من سورة الرعد ص 210 من الجزء الخامس من تفسيره الكبير، ونقل ثمة حديث جابر الذي اشرنا إليه.
•  3. نقله عنهما وعن عمر وابن مسعود امام المفسرين في معنى الآية من مجمع البيان ص 298 من مجلده الثالث طبع العرفان.
•  4. اخرجه ابن ابي شيبة من حديث علي كما في ص 251 من الجزء الاول من كنز العمال، واخرجه ايضا ابن مردويه كما في آخر الصفحة المذكورة من الكنز.
•  5. اخرجه الحاكم في تفسير سورة الرعد من المستدرك في اول ص 350 من جزئه الثاني، واخرجه الذهبي في تلخيصه مصرحين بصحته.
•  6. القران الكريم: سورة الرحمن (55)، الآية: 29، الصفحة: 532.
•  7. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 282، الصفحة: 48.
•  8. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 85، الصفحة: 231.
•  9. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 86، الصفحة: 231.

•  10. أجوبة مسائل جار الله، بقلم سماحة آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، الطبعة الثانية 1373 ه‍ مطبعة العرفان ـ صيدا. 1953 م، ص 99 ـ 103.

مواقيت الصلاة