علمٌ وفكر

علم الله بالأشياء قبل وقوعها يستلزم الجبر؟!

 

الشهيد مرتضى مطهري
لا بأس في التعرّض هنا إلى أشهر إشكالات الجبريين، ونقوم بتحليله لتتضح الإجابة عليه. إنّ الله عالم من الأزل بما وقع وما يقع، ولا تخفى على الله وعلمه الأزلي خافية. ومن جهة أخرى فإنّ العلم الإلهيّ لا يقبل التغيير ولا يتبدّل ولا المخالفة للواقع، ذلك لأنّ التّغيير منافٍ لتماميّة ذات واجب الوجود وكمالها، ولا يمكن مخالفة ما يعلمه من الأزل لما يقع، لأنّه يلزم أن لا يكون علمه علمًا بل جهلًا، وهذا أيضًا يتنافى مع تمامية الوجود المطلق وكماله وعليه، وبحكم المقدمتين الآتيتين:
أ- إنّ الله عالم بكلّ شيء.
ب- إنّ العلم لا يقبل التغيير ولا الخلاف.


لا بدّ أن نستنتج: إنّ الحوادث والكائنات يجب أن تجري بنحوٍ ينطبق مع علم الله قهرًا وجبرًا. وخصوصًا، إذا أضفنا إلى ذلك أنّ العلم الإلهي علم فعلي إيجابي، أي هو علم يكون المعلوم فيه نابعًا من العلم، وليس علمًا انفعاليًا يتحقّق العلم فيه من وجود المعلوم، نظير علم الإنسان بحوادث العالم.
وعلى هذا، لو كان الأمر في العلم الأزلي أنّ الشخص المعيّن سوف يرتكب المعصية المعينة في الساعة المعينة، فإنّه لا بدّ أن تقع تلك المعصية جبرًا وقهرًا بالكيفيّة نفسها، ولا يمكن للشخص المرتكب أن يغيّر ذلك إلى شكل آخر، بل لا يمكن لأيِّ قدرة في الوجود أن تغيّرها، وإلّا فإنّ علم الله سيتحول إلى جهل!


الجواب:
الردُّ على هذه الشُبهة بعد معرفة مفهوم القضاء والقدر معرفة صحيحة أمرٌ سهل. فإنّ الشبهة إنّما حصلت بعد أن أُعطي لكلّ من العلم الإلهي من جهة، ونظام الأسباب والمسبّبات في العالم من جهة أخرى حسابٌ مستقلّ، بمعنى أنّه فرض أن العلم الإلهي في الأزل تعلّق صدفة بوقوع الحوادث والكائنات، ولأجل أن يكون هذا العلم علمًا، ولئلا يقع خلافه فقد لزم أن يسيطر على النظام العالمي، ويخضع للمراقبة الشديدة ليكون مطابقًا للتصوّر والتخطيط المسبقين له. وبعبارة أخرى: إنّه يفترض أنّ العلم الإلهي، بصرف النظر عن نظام الأسباب والمسبّبات، قد تعلّق بوقوع الحوادث وعدم وقوعها، وأنّ من اللازم أن يجعل هذا العلم مطابقًا للمعلوم الواقع بأيِّ وسيلة، وعليه فلا بدَّ من ضبط نظام الأسباب والمسبّبات في العالم، ففي بعض الموارد يعمل على منع ما من شأنه أن يؤثّر، وإبطال عمل الإرادة والاختيار لمن يعمل بهما، لكي يكون ما سبق في علم الله الأزلي مطابقًا لما يقع ولا يغايره. ومن هنا، فيجب سلب الاختيار والحريّة والقدرة والإرادة من الإنسان لتكون أعماله تحت السيطرة الإلهية، ولئلّا يتحوّل علم الله إلى جهل.


إنّ العلم الأزلي الإلهي ليس منفصلًا عن النظام السببي والمسبّبي في العالم، إنّ العلم الإلهي علم بالنظام وما يقتضيه العلم الإلهي هو هذا العالم مع هذه الأنظمة، فالعلم الإلهي مباشرة ومن دون واسطة لا يتعلّق بوقوع حادثة ولا بعدم وقوعها، وإنّما يتعلّق العلم الإلهي بالحادثة من خلال علّتها وفاعلها الخاصّ وليس تعلّقه بها بشكل مطلق غير مرتبط بأسبابها وعللها. وإنّ العلل والأسباب متفاوتة، فبعضها علّيته وفاعليّته طبيعية، وبعضها علّيته شعورية، وبعضها مجبور، والآخر مختار.
وما يوجبه العلم الإلهي الأزلي هو صدور أثر الفاعل الطبيعي من الفاعل الطبيعي، وأثر الفاعل الشعوري من الفاعل الشعوري، وأثر الفاعل المجبور من الفاعل المجبور، وأثر الفاعل المختار من الفاعل المختار، ولا يقتضي العلم الإلهي أن يصدر أثر الفاعل المختار من ذلك الفاعل قهرًا وجبرًا.
والإنسان في نظام الوجود كما قلنا مسبقًا يملك نوعًا من الحريّة والاختيار، وله إمكانات في فاعليّته، وتلك الإمكانات ليست متوافرة للموجودات الأخرى حتى للحيوانات. ولأنّ النظام العيني يستمدّ وجوده من النظام العلمي، وأنّ منبع العالم الكوني هو العالم الربّاني، فإنّ العلم الأزلي المتعلّق بأفعال الإنسان وأعماله هو بمعنى أنّه يعلم من الأزل من هو الذي سوف يطيع باختياره وحرّيته، ومن هو الذي سوف يعصي بحرّيته واختياره كذلك. والذي يوجبه ذلك العلم ويقتضيه هو أن يطيع ذلك المطيع بإرادته وأن يعصي ذلك العاصي بإرادته، وهذا هو معنى قول أولئك القائلين بأنّ "الإنسان مختار بالإجبار" فلا يمكنه أن لا يكون مختارًا. فليس للعلم الأزلي أيُّ دخل في سلب الحريّة والاختيار ممّن قرّر له في النظام العلمي والنظام العيني أن يكون مختارًا، وليس له أيُّ دخل في سلب الاختيار والحريّة الإنسانية، بأن يجبره على الطاعة أو المعصية.
وعلى هذا فكلتا المقدمتين المذكورتين في الإشكال صحيحتان ولا شكّ فيهما، وكذلك صحيح ما قلناه في تلك النقطة الإضافية من أنّ علم الله فعلي وايجابي لا انفعالي وتبعي... ولكنّه لا يلزم من ذلك أن يكون الإنسان مجبرًا ومسلوب الاختيار، وأنّه عندما يعصي يكون قد أُجبر على العصيان من طرف قوّة أعلى منه، بل إنّ الموجود الذي خُلِق مختارًا في النظام التكويني هو في النظام العلمي أيضًا حرٌّ مختار، فإذا فعل فعلاً يجبر عليه كان علم الله جهلًا.


فالنتيجة على هذا هي أنّ العلم الأزلي بأفعال الموجودات ذات الإرادة والاختيار ليس جبراً، بل هو نقيض للجبر، فإنّ لازم العلم الأزلي هو أن يكون المختار مختارًا حتمًا.
وهكذا يمكن أن نستنتج ما الآتي:
1- إنّ مشيئة الله ماضية، ولا يمكن لأيّ شيء أن يغلبها.
2- إنّ هذه المشيئة تظهر في عالم القضاء والقدر (نظام العلل).
3- إنّ مشيئة الله قضت أن يكون الإنسان مختارًا.
4- وهذه المشيئة جعلت العالم متّسعًا لخيارات لا متناهية.
5- الإنسان لا يمكنه أن يعرف حقيقة المشيئة.
6- عندما يعرف الإنسان أحد القوانين والسنن الحاكمة يظنّ أنّه عرف المشيئة.
7- لكنّه سرعان ما يكتشف أن هناك قوانين أخرى كان يجهلها عندما شاهد القضاء لا يجري وفق القوانين الأولى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة