مقالات

هل يزول الدِّين؟‏ (2)

 

الشهيد مرتضى مطهري

4- الدِّين وليد الطبقيّة (النظريّة الماركسيّة):
تعتقد الماركسيّة أنّ الدِّين فكرة جاءت بها الطبقة الحاكمة شراكاً لتحتفظ بمكانتها وسلطتها بين الشعوب، ولولا الدِّين لثارت الطبقة المحرومة المحكومة مطالبة بحقوقها المشروعة..
فالدِّين أفيون الشعوب المحرومة، مخدّر لها عن القيام على الطبقة الحاكمة، وما دامت الطبقيّة موجودة فالدِّين موجود، ولكن إذا ما ساد المذهب الاشتراكيّ وزالت الطبقيّة زال الدِّين تلقائيّاً، تماماً كما كان في المرحلة الشيوعيّة البدائيّة، وعليه فالمساواة التامّة بين أفراد المجتمع شرط ضروريّ للقضاء على الدِّين.
والملاحظ أنّ هذه النظريّة لم تلتزم بقيام العلم مقام الدّين كسائر النظريّات بل رأت في العلم تطوّراً وتقدّماً لا يتنافى ووجود الدّين، بل لاحظوا، بأنّ كبار العلماء هم من العلماء الملتزمين دينيّاً كپاستور وغيره.
لذلك اعتمدت الماركسيّة على الطبقيّة، فأكّدت بأنّه ما دام للطبقات الاجتماعيّة وجود فإنّ الدّين لا يزول إلّا بزوالها.

الاعتراض على هذه النظريّة
إنّ دعوى أنّه في مرحلة الشيوعيّة البدائيّة لم يكن هناك وجود للدِّين، وأنَّ الدِّين قد أوجدته الطبقة الحاكمة "كشِراك" غير صحيحة، لأنّ التاريخ أكبر شاهد على أنّ الدِّين ولد بين الطبقات المحرومة والمستضعفة.
فالنبيّان موسى وهارون عليهما السلام كانا من الطبقة المحرومة المضطهدة، قاما على فرعون وأعوانه من الطبقة الحاكمة ودعوهما للدِّين بينما كانت الطبقة الحاكمة مناهضة للدِّين والتديّن. 
وكذلك نبيّ الإسلام محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بُعث لنشر الدِّين، وأعلن ثورته هو والّذين آمنوا معه من الطبقة المستضعفة على الطبقة الحاكمة المستبدّة الثريّة أمثال أبي سفيان وأبي جهل والوليد بن المغيرة.

5- الدِّين وليد كبت الغريزة الجنسيّة (نظريّة فرويد):
لقد فسّر فرويد الدِّين كما فسّر بقيّة الظواهر الاجتماعيّة وفقاً للغريزة الجنسيّة، فالحرمان الجنسيّ والكبت للغريزة الجنسيّة الناتج عن القيود الاجتماعيّة يولّد بنظر فرويد أمراضاً عصبيّة ومظاهر مختلفة، والدِّين واحد من تلك المظاهر، والحريّة الجنسيّة هي الّتي تزيل الأمراض وبزوال الحرمان الجنسيّ يزول الدِّين تلقائيّاً.
لكنّ تلاميذ فرويد أنكروا عليه هذا الرأي، ولم يتقبّلوا منه ذلك ثمّ هو نفسه تراجع عن هذا الرأي. 
ماذا يقول المفكّرون حول فطريّة الدِّين؟

1- عالم النفس الشهير يونغ:
يقول يونغ تعليقاً على كلام أستاذه فرويد: لقد أصاب فرويد عندما اكتشف اللاشعور (الباطن)، لكنّه أخطأ عندما اعتبر أنّ جميع ما في اللاشعور هو ممّا يطرده الشعور الإنساني (الظاهر)، وأنّه من الميول الجنسيّة الناتجة عن الكبت الحاصل في الشعور، والصحيح أنّ للإنسان وجوداً لاشعوريّاً فطريّاً، ونفساً باطنيّة طبيعيّة كما قال، ولكنّ محتويات هذا الباطن غير منحصرة بما ينعكس عليه من الشعور الظاهر، بل له محتويات خاصّة به غير منعكسة من الشعور الظاهريّ، والدِّين واحد من تلك المحتويات الفطريّة.

2- الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس:
وإن صحّ القول بأنّ المنشأ للكثير من الرغبات والميول الباطنيّة هي الأمور الطبيعيّة والعالم الماديّ، لكن في نفس الوقت هناك ميول ورغبات باطنيّة كثيرة منشؤها العالم المعنويّ، فالحبّ والوفاء والإيثار والإخلاص وأمور نفسيّة دينيّة كثيرة لا نراها تتوافق مع الحسابات الماديّة، إذا هناك غرائز ماديّة تربطنا بعالم مادّي وهناك غرائز معنويّة تربطنا بعالم آخر. 

3- ألكسيس كارليل:
يقول في كتابه (الدعاء): الدعاء أسمى حالة دينيّة مقدّسة، حيث تحلّق روح الإنسان لله.. ويوجد في الوجدان الإنسانيّ شعلة تعرّف الإنسان على خطاياه وانحرافاته أحياناً، وهي الّتي تصدّه عن الوقوع فيها.. وفي بعض حالات الإنسان الروحيّة يشعر بعظمة المغفرة وجلالها.

4- أنشتاين:
إنّ العوامل الّتي جعلت الإنسان يلتزم بالدِّين وأنواع الآلهة هي:
أ- عقيدة عند الإنسان البدائيّ بإله الخوف وهي أنّ خوفه من الموت والجوع والحيوانات الكاسرة والمرض جعلته يؤمن بالدِّين، ثمّ تقوم ذهنيّة هذا الإنسان المحدودة بخلق بعض الأشكال، يصنعها بيده ويسعى للتخلّص من غضبها ولكسب رضاها، وهذا ليس ديناً حقيقيّاً ولا إلهاً حقيقيّاً وإنّما هو دين الخوف، وإله صنم ووثن.
ب- إله المسيحيّة واليهوديّة وهي عقيدة عند الإنسان بوجود الهادي والمخلّص والموجّه، حيث إنّ الإنسان بطبيعته يحبّ الاجتماع بينما يجد الموت يأخذ منه الأعزّاء، الأهل والأولاد والأقارب والزعماء، فيشعر بالوحدة واليأس، وتصبو نفسه لذلك الإله المخلّص والهادي ليعتمد ويتّكل عليه وهذا عامل مساعد على نشأة الدِّين أيضًا وهذا الإله بنظر أنشتاين ليس حقيقيّاً وإن كان أكثر تقدّماً من دين الخوف وذلك لأنّ الصفات المفروضة له بشريّة لا تتعدّى أفق الإنسان.
ج- الإله الحقيقيّ وهو ما يعتقد به قلّة قليلة حيث توصّلت للاعتقاد بإله فوق كلّ هذه الأوهام والخيالات، يحمل الخصائص المتعالية والصفات الّتي تجعله أهلاً للعبادة والقداسة، فيقول أنشتاين: "وهناك دين وعقيدة ثالثة متواجدة في الأذهان كلّها دون استثناء، وإن كنت لا تجد تصوراً واحداً لها، ولا صورة خاصّة بها عند الجميع، وأنا أطلق على هذه العقيدة (الإحساس الدينيّ للوجود) ويصعب عليّ توضيح هذا الإحساس لمن يفتقده... إنّ هذه العقيدة تعرّف الإنسان على ضآلة الآمال والأهداف البشريّة، وعظمة ما وراء الموجودات الطبيعيّة، يشعر أنّ وجوده سجن ويطمح للتخلّص من سجن البدن ويحلّق عالياً، ليعثر على الوجود كلّه مرّة واحدة وبحقيقته الواحدة".
وممّا يستفاد من كلامه أنّ الناس جميعاً يمتلكون هذا الإحساس الدينيّ لا سيّما أولئك الأشخاص الّذين بلغوا مرحلةً من الرشد والتطوّر، فهم يريدون التخلّص من وجودهم المحدود والوصول إلى قلب الوجود، وهذا الإحساس رغبة وغريزة في الإنسان لا تهدأ أبداً إلّا إذا اتصلت بمنبع الوجود وهو الله، وهذه الحقيقة هي ما يعبّر عنها القرآن الكريم:
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

النتيجة: الدِّين رغبة فطريّة ونستفيد من مجموع ما تقدّم أنّ المنكرين لفطريّة الدِّين ليس لهم رأي موحّد حول نشأة الدِّين، بينما في المقابل نقلنا آراء بعض المفكّرين ومن جملتهم أنشتاين ـ ولعلّه أعظم علماء العصر الحديث ـ واعترافهم بفطريّة
الدِّين، فكيف يُقال بعد هذا بأنَّ الدّين وليد الجهل، أو الخوف أو الطبقيّة أو الغريزة الجنسيّة أو أيّ شي‏ء آخر؟!

الخلاصة
عندما نتأمّل في الحياة نجد الأمور كلّها إلى زوال، فهل من شي‏ء خالد في الحياة، وما هو معيار الخلود؟ ولكي نعرف المعيار نقسّم رغبات الإنسان إلى فطريّة لا يمكن الاستغناء عنها، وإلى غير فطريّة يمكن التخلّص منها والاستغناء عنها، وأيّ تيّار يسير عكس الرغبات الفطريّة الإنسانيّة لا يمكن له أن يدوم، تماماً كما حصل مع الشيوعيّة عندما أرادت أن تطبّق فكرة الاشتراكيّة وإلغاء النظام العائليّ، ومن هنا يطرح السؤال التالي:
هل الدِّين من الظواهر الخالدة أم لا؟
وهل ينطبق عليه معيار الخلود وأنّه أمر فطريّ؟
هناك عدّة نظريّات حول الدِّين، منها أنّه وليد الجهل، ومنها أنّه وليد الخوف، ومنها أنّه ناشئ من الرغبة في تحقيق العدالة، أو نتيجة كبْت في الغرائز الجنسيّة، ومنها أنّه من جرّاء الطبقيّة الموجودة في المجتمع، لكن لو لاحظنا ما قاله أكبر الفلاسفة لوجدناهم ينادون جميعاً بفطريّة الدِّين، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم.
فالدِّين أمر فطريّ وهو خالدٌ لا زوال له.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة