علمٌ وفكر

جانب الإنسان الروحي والجسمي في العالم الآخر (2)


السيد موسى الصدر

ثانيًا: البحث أو الطريقة الثانية لإثبات الروح هي مسألة التغير
تصور أنني شخصيًّا أو أنت أو أي واحد منا هو شخص واحد من أول الطفولة إلى الآن... موجود واحد. هذا الموجود كان طفلًا، ثم بدأ المولود يكبر، ثم درس وتعلم، كسب صداقات وعداوات، تربى، كبر... لم يزل نفس الموجود، إنما هو ينمو ويكبر ويتغير ويختلف ويتوسع ويتعلم ويتثقف. هذا الموجود شخص واحد، نحن نسأل هنا ما هو سر الوحدة في هذا الوجود بعد أن أثبت العلم الحديث أن الخلايا الجسدية تتغير؟
اليوم كما تعلمون، الإنسان يأكل، وهذا الأكل يتحول إلى المواد الغذائية وتصل هذه المواد إلى الخلايا التي بدورها تتوسع وتنمو وتكوّن خلايا جديدة. ثم الخلايا العتيقة تعتق وتهرم وتموت، ثم تخرج من الجسد، إما تتحول إلى الظفر أو الشعر، أو تخرج من البدن مع الفضلات الأخرى.
إذًا، الإنسان هو هذه الخلايا العتيقة التي تنتهي وتتكوّن خلايا جديدة. هذه الخلايا القديمة بالتدريج تكثر وتكثر حتى بإمكانك أن تقول أن جميع جسد الإنسان يتغير. لديكم خبر ربما أنهم يقولون اليوم أن جسد الإنسان خلال 14 سنة أو 12 سنة يتغير كله. أنت بواسطة الأوساخ من الجلد أو بواسطة الأظافر أو الشعر، أو بواسطة البول والمدفوع، أو بأي واسطة ثانية الخلايا العتيقة تطلع، والجديدة تنمو ثم الجديدة تتحول إلى عتيقة، وتطلع من الجسد، والجسد يتغير. يعني اليوم من خلاياك قبل 14 سنة، تلك الخلايا التي كانت موجودة عندك قبل 14 سنة لم يبقَ منها اليوم ولا واحدة. كلها انتهت. خلايا جسمك، خلايا جلدك، لحمك، دمك، عصبك، عظامك... كلها انتهت، هناك خلايا جديدة، الموجودة الآن هي غيرها التي كانت قبل 14 سنة. ما دام الجسد، المادة، تغيرت بمجموع أجزائها، وما بقي من خلاياك السابقة أية خلية، فإذًا، ما دامت الخلايا تغيرت، والمادة تغيرت، وأجزاء وجودك: جسم، لحم، ودم، وعصب، وعظام، ودماء... كله تغير، فإذًا، كيف أنت ما زلت تحتفظ بوحدة شخصيتك؟

أذكر بشكل أوسع وأوضح: أنت كنتَ في المهجر، عشتَ في المهجر 20 سنة، رجعتَ... لستَ أنت الذي رجعت، جميع أجزاء جسدك تغير. ولكن رجعتَ وأنتَ تعرف الناس، تعرف شوراع "صور"، تحتفظ بصداقاتك وعداواتك، كيف هذا؟ لو كنتَ أنت المادة، لكانت ذهب مع ذهاب الخلايا كل العواطف وكل الصداقات وكل العداوات وكل العلوم وكل المعلومات وكل التجارب. اليوم الذي يدرس 20 سنة، 30 سنة، 40 سنة، لو كان الجسم يتغير كله بجميع خلاياه، لكان يجب أن ينسى كل 14 عامًا، كل ما قرأه سابقًا لأنه لم يعد موجودًا في جسده لو كان مادة فحسب.
فإذًا، هذا السؤال يطرح بهذا الشكل: لو كان الإنسان جسمًا فقط، والجسم يتكون من المادة والخلايا، لكانت الخلايا تغيرت خلال 10 أو 12 أو 14 سنة، وكان يجب أن يتغير كل شيء في وجود الإنسان؛ ولكن هناك شخصية للإنسان لا تتغير... أنا أذكر ذكريات أيام طفولتي قبل 20 أو 30 سنة. فإذًا، يظهر أني أنا وجود واحد من أول طفولتي إلى الآن. ما هو السبب في وحدتي غير خلاياي، غير جسمي، غير أعصابي، ودماغي وقلبي ودمي... هناك شيء آخر لا يتغير، لا يتحول، لا يتكون من الخلايا... ذلك الشيء هو الروح.
فإذًا، هذا البحث الثاني يُطرح بهذا الشكل. الإنسان يتغير بجميع أجزاء وجوده، فلو لم يكن في وجود الإنسان شيء ما وراء هذا الجسم لكان يتغير كل شيء، كان يذهب بعد 14 سنة أو 15 سنة أو 20 سنة، يرجع من المهجر أو يرجع من السفر وما بقي منه شيء. كان يجب أن لا يعرف أحدًا. لا يتعرف على الشارع، لا يحتفظ بحب أو ببغض أو بصِلة، أبدًا أبدًا، انقضى كل شيء. لكن ما دام هناك أشياء باقية، يظهر ثقلًا... هناك قاعدة باقية من سابق الأيام إلى اليوم، مرسوم عليها الحب والبغض والصداقات والتجارب والعلوم والصفات الطيبة والصفات غير الطيبة وأمثال ذلك.
فإذًا، الإنسان هو غير هذا الجسم الذي يتكون من الخلايا، غير هذا الجسم، له شيء آخر اسمه الروح. وهذه الروح هي التي تحمل واقع وجود الإنسان، وتحافظ على شخصية الإنسان وتكوين هذه الشخصية، وتبقي تجارب الإنسان وعواطف الإنسان وصداقات الإنسان وعداوات الإنسان ونفسية الإنسان. هذا الموجود الواحد، ذلك هو الروح.

وإذا طُرِحَ السؤال: طالما أن الروح تأتي مع الإنسان فلماذا تبقى مستمرة بعد الموت؟
فإننا نجيب أن هذا بحث آخر. نحن هنا نرسم فقط إشارة عن الروح فقط، أي أن هناك شيئًا غير هذا الجسم الذي نراه. ويمكن أن نبحث في السؤال الذي يعني أنه كيف الروح هي جسمانية الحدوث وكيف أنها روحانية البقاء حسب تعبير الفلاسفة؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه. والجواب الذي نستنتجه هو قاعدة المعاد وسبب الخلود. ...
اليوم لخصنا حديثنا مثل واحد واقف أمام حشد، يريد أن يشير بيديه إلى شخص يعرفه. فيقول له: أُنظر في المكان الفلاني... أُنظر... أُنظر، قصده فقط أن يشير إلى جانب الروح حتى نقول أن هناك شيئًا غير هذا الجسم المحدود ذي الأبعاد المتغير هناك شيء آخر، لا حد له، ولا يتغير، ذلك هو الروح. هذه مقدمة البحث عن: المعاد.....

ثالثًا: السير والسرعة والزمان
ممكن أن نقول أن الدليل الثالث هو مسألة السير والسرعة والزمان، لأن كل موجود مادي في حركته، بحاجة إلى الزمن. إذا أردنا أن نذهب من هنا إلى بعد كيلومتر، فإننا بحاجة إلى وقت لنقطع المسافة، السيارة تقطع المسافة أسرع منّا ولكنها تحتاج إلى وقت... ولو كيلومتر تحتاج إلى كم دقيقة، الطائرة تسرع أكثر من السيارة ولكنها أيضًا بحاجة إلى وقت لقطع المسافة. أسرع شيء في العالم، ما هو يا شباب؟ أسرع شيء في العالم النور، أليس كذلك؟ يقال أن النور أسرع شيء. أي في كل ثانية نور الشمس يقطع ثلاث مئة ألف كيلو مترًا، في كل ثانية. هذا أسرع شيء في الدنيا، ولكن مع ذلك يحتاج للوقت. نور الشمس يستغرق 13 دقيقة و17 ثانية حتى يصل إلينا. فإذًا، كل شيء في العالم بحاجة إلى وقت حتى يقطع مسافة ما. نور الشمس يحتاج إلى وقت! كم يحتاج من الوقت؟ 14 دقيقة. ولكن خيال الإنسان وتصور الإنسان، ليس بحاجة إلى وقت. أنت جالس هنا، دفعة واحدة تنتقل إلى أميركا. أحكي لك عن فيتنام، تقفز إلى أميركا وتذهب إلى آخر آسيا. ثم أتكلم عن كوكب الزهرة، فورًا ينتقل تصورك من الأرض إلى السماء. ثم إذا تكلمت عن السحابيات التي تبعد عنا ملايين السنوات الضوئية، أي أن نورها يحتاج إلى مليون سنة ضوئية للوصول إلينا... أنت فورًا تتصورها، بلحظة تنتقل إلى هذه السحابيات وإلى هذه الكواكب. كيف يتمكن الإنسان أن يتصور بهذه السرعة؟ لو كان شيئًا ماديًا في دماغنا ينتقل من هنا إلى هناك، ولو افترضناه أسرع من النور بمئة ألف مرة كذلك، على الأقل يتطلب ثانية أو ثانيتين... أبدًا، الروح لا تحتاج إلى شيء ولا إلى الزمن، مع أنه لو كان شيئًا ماديًا خاضعًا لقانون المادة، لكان يجب أن يقطع المسافة بمقدار وقت ما، مهما كان الوقت قليلًا.

أدلة الروح كثيرة، لكن أكتفي بهذه الأدلة الثلاثة:
1 ـ الإنسان متغير بأجمع أجزائه وخلاياه مع أنه يحتفظ بكثير من الأشياء مما يؤكد وحدة الإنسان.
2 ـ الإنسان يتصور ما هو أكبر منه بملايين المرات من دون الشعور بالضيق.
3 ـ الإنسان يتصور ما هو بعيد عنه بسرعة من دون أي وقت.
من هذه الأدلة الثلاثة ماذا نستنتج؟ نستنتج أن في الإنسان ما عدا هذا الجسم، ما عدا هذه الجسميات، ما عدا هذه الخلايا الموجودة الملموسة المحسوسة فينا، ما عدا هذا كله هناك شيء آخر الذي نسميه الروح. ما هي مزايا ذلك الشيء الآخر؟ الروح ما هي صفاتها؟ كيف نقدر أن نفهم طريقة الروح؟ أين هي الروح؟ وكيف هي؟ هذه المسائل تراود ذهننا، نحن إذا انتبهنا لهذه الأدلة الثلاثة نقدر أن نفهم مزايا الروح. ما هي الروح؟ كيف هي؟
أولًا، قلنا أن الروح لا تخضع لنظام التغير. الجسد يتولد ويتكون ويشيب ويهرم ويموت بكل ذرة من الذرات. لكننا رأينا أن الروح ليست كذلك، بدليل أنه من أول الحياة إلى آخر الحياة هي موجود واحد. صحيح يتكامل، يصير عنده معرفة، خبرة جديدة، تجربة جديدة، معلومات جديدة، لكنه لا يتبدل، بل يتكامل.

ثانيًا، الروح ليس لها أبعاد الطول، العرض، العمق. لماذا؟ لأنه لو كان للروح أبعاد لكانت تضيق بالتصورات. يعني أنه لو افترضنا أن للروح أبعادًا: طول وعرض وعمق، فمهما كانت كبيرة فهي مثلًا أصغر من البحر المتوسط الذي إذا تصورته، فهو سيضيق. فإذًا، الروح ليس لها أبعاد، ليس لها طول وعرض وعمق.
ثالثًا، الروح لا تخضع للزمان والمكان والسرعة. لا تخضع للزمان، يعني ليست زمانية خاضعة للزمان مثل الجسد. الجسد خاضع للزمن، الزمن يتحكم فيه. يعني هذا الشيء الواحد، هذا الموجود الواحد، بالأمس كان طفلًا، وبعده صار شابًا، وبعد ذلك صار شيخًا وبعد ذلك هرمًا... هو شخص واحد، في كل زمان له حكم. الجسم يخضع للزمن، بينما الروح لا تخضع للزمن، كما رأينا أنها تقطع المسافات من دون زمان.
سأوضح لكم، ليس هناك شيء غامض. تصوروا معنى: المجرد، هذه الأوصاف التي أقولها عن الروح أوصاف المجردات. إذا أحدهم تصور معنى المجرد فهذا إنسان كامل؛ وهذا بحث فلسفي عميق وأنتم بحاجة إلى الثبات على التفكير حتى تتصوروا. وأنتم بإمكانكم أن تتصوروا طريقة المجردات، الأشياء التي تشبه الروح، مثلًا الله! نحن نقول أن الله ليس له زمان ولا مكان ولا تغير. إذا سألك أحدهم: أين الله؟ ماذا تقول؟ تقول في السماء. أين هي السماء؟ السماء فوق؟ لا! ليس هناك فوق، اسمه السماء. فوق، هناك فضاء، وأنت تعرف أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها، فالمكان الذي تراه أنت فوق في الليل يصير تحت... ليس هناك فوق وتحت، فوق وتحت معنى نحن اختلقناه. المكان الذي فوق رأسنا فوق وفي الليل تنعكس الأمور. أليس كذلك؟

تصور! هذه الكرة الأرضية، الأرض كرة، أي تشبه من حيث الشكل التفاحة مثلًا، والأرض تدور حول نفسها، عندما تكون أنتَ: رأسك نحو فوق، وقدماك على الأرض. وأنتَ عندما تدور الكرة الأرضية، ينقلب الوضع رأسًا على عقب، ويصبح فوق تحت قدميك. المكان الذي هو في النهار فوق في الليل هو تحت. ليس في العالم فوق وتحت. فوق وتحت هذه أشياء نحن نختلقها، نحن نفترضها.
أذكر لكم مثلًا، وأرجو أن تنتبهوا للأبحاث لأننا هنا أمام قفزة من عالم المادة إلى عالم الروح، ونريد أن نتصور ولو طال المجال. أنت الآن تجلس في هذه الغرفة، أين جنوبها؟ جنوب هذه الغرفة قرب الباب. أليس كذلك؟ شمال الغرفة... وهذا الحائط يعتبر شرق الغرفة، وهذا الحائط غرب الغرفة؟ فإذًا، جنوب، شمال، شرق، غرب... هذا التصور محدود. في الغرفة الأخرى، هذا الحائط الذي كنت تسميه غربًا، هنا شرق. في غرفة الطعام، الحائط الذي كنت تسميه جنوبًا أصبح شمالًا. فإذًا، أين الشمال وأين الجنوب؟ تقول الشمال هناك، أنا معك! أين الجنوب؟ الجنوب هناك، بعيد، بعيد، بعيد. إذا ذهبنا إلى هذا البعيد، البعيد، البعيد، فأين الشمال؟ هل تجده؟
يقال أن للكرة الأرضية قطبًا شماليًا، أليس كذلك؟ إذا ذهبنا إلى هذا القطب الشمالي، فأين الشمال هناك؟ ليس هناك من شمال. تقول في السماء! جيد! تذهب إلى هناك، فهل تجد الشمال؟ كلا لن تجد الشمال، فإذًا، شمال، جنوب، شرق، غرب... هذا تحديد دماغنا نحن.
هذا بالنسبة للمكان. نأتي للزمان: فنقول: الساعة الواحدة. أو الساعة الثانية عشرة. فما هي الساعة الواحدة والساعة الثانية عشرة؟ تقول أن الساعة الواحدة يعني ساعة بعد الثانية عشرة. والساعة الثانية عشرة يعني نصف النهار، أي أن الشمس بلغت نصف النهار. فإذًا، ساعة يعني أننا احتسبنا دورة الشمس من هذا المكان إلى مكان آخر. أليس كذلك؟ أي أن الشمس دارت من هنا ووقفت في مكان معين. وهذا نسميه 24 ساعة أي نقطعه 24 ساعة... كيف تقطعه 24 ساعة، ولماذا ليس 25 ساعة؟ هل هناك فرق بين الساعة الواحدة والساعة الثانية؟ لا فرق... افتراض! نحن نعيش في أصنامنا، نحن نخلق أشياء ونعيش فيها. الساعة؟ ما هي الساعة؟ افترضنا! تصورنا أن الشمس في كل دورة، نقسمها أربعًا وعشرين قسمة، وكل قسمة نسميها ساعة. لو قسمنا دورة الشمس 30 قسمًا، وكل قسم نسميه ساعة، ولماذا سنقسمه 24؟ لأن العدد أسهل من هذه الناحية. وإلا ليس هناك أي سبب آخر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة