علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيركجارد ونقد تعقيل الإيمان (3)

 

حيدر حب الله

هذا ما يجرّنا إلى مقارنة بين كيركجارد والمفكّر الإيماني المعاصر جون بيشوب (John Bishop)، حيث يعتبر بيشوب أنّ ترك التفسير الإيماني ورفض ممارسة تبرير عقلاني للإيمان سوف يورّطنا في الخرافة والأسطورة، فتبرير الإيمان ضروريٌّ لأجل صيانته من الخطأ([8])، وهذا معنى أنّ بيشوب ووليام جيمز (1910م) يعتبران أنّ الإيمان الذي يواجه الشواهد الموجودة غير صحيح، فمخالفة المغامرة الإيمانية للشواهد القائمة يجعل الإيمان في خطر.
وروح فكرة بيشوب مستقاة من وليام جيمز حيث يرى أنّ من الناحية الأخلاقية يمكن توظيف الموضوع (p) بشكل أخلاقي حتى لو لم يثبت وجوده أو عدم وجوده في الخارج، وذلك بشرطين:
1 ـ أن يكون اختيار (p) اختياراً أصيلاً.
2 ـ أن لا يقوم على هذا الاختيار سلوك قائم على قرارات مبنيّة على أسس عقليّة. فلا يمكنني أن أمارس فعلاً قائماً على أسس عقلية انطلاقاً من هذا الموضوع (p)([9]).
ومرجع هذا كلّه إلى أنّ الإنسان ـ كما يقول كليفورد ـ مسؤولٌ أخلاقيّاً عن الإيمان الخاطئ، وليس متحرّراً من هذا الالتزام الأخلاقي بحجّة المغامرة أو المخاطرة الإيمانيّة.
2 ـ كيركجارد ومخاطرة العلاقة بين الإيمان والسلوك
المداخلة الثانية: لا يمكن لكيركجارد أن يفصل الإيمان عن السلوك، فالإيمان يؤثر تأثيراً واضحاً في شكل سلوك الإنسان، وليس من المعقول أن نفصل الإيمان عن الحياة اليومية للفرد في علاقته بذاته وبالله وبالإنسان والطبيعة، وسواء كان هذا التأثير مباشراً أم غير مباشر، لكنّه قائم على أيّة حال، وهنا إذا لم نخضع الإيمان لشكل من أشكال التبرير الأخلاقي، وهو نوع من التعقيل، فإنّنا نكون قد وضعنا السلوك الإنساني في خطر الممارسة الخاطئة، بل وحتى غير الأخلاقيّة!
هل يمكن لكيركجارد أن يفصل رؤيته الإيمانية عن موقفه الناقد اللاذع للكنيسة الدانماركيّة اللوثريّة التي كانت في زمانه؟ لقد كتب كيركجارد العديد من الكتب في نقد الكنيسة وتمّ اعتباره كافراً مرتدّاً، وكانت هجماته المتبادلة مع الكنيسة مشهودة واضحة اشتدّت في أواخر حياته، لقد اعتقد كيركجارد بأنّ الكنيسة غير قابلة للإصلاح، بل لابدّ من هدمها وإعادة تشكيل الكنيسة المسيحيّة من جديد، لقد كان نقده للكنيسة جزءاً من إيمانه، وكان قضيّةً إيمانية بالنسبة إليه، لقد نقل لنا التاريخ أنّ كيركجارد رفض استقبال أخيه القسيس (بيتر) الذي أراد زيارته في مرضه الأخير الذي أقعده في المستشفى أربعين يوماً، أليس لذلك علاقة وتأثير وتأثر بإيمانه؟!
إنّ موقف كيركجارد من الكنيسة نابعٌ من موقفه من فرديّة الإيمان وأنّه تجربة ذاتية إراديّة مع الله ومعاناة حقيقيّة تجاهه؛ لأنّ الإنسان المسيحي عند كيركجارد هو الإنسان الذي يعاني. كما أنّ موقفه من الكنيسة نابعٌ من قناعته بأنّ البعد الاحتفالي الطقوسي بالدين هو عملية تضليليّة بامتياز، وهي نحر للحقيقة الوجودية للدين في داخل الفرد المختار([10]). واختيارُ الفرد في الفلسفة الوجوديّة الإيمانية لكيركجارد له تأثير عظيم على موقفه من الانتماء المسيحي التلقائي للمسيحيّة بمجرّد ولادة الإنسان في مجتمع مسيحي حيث يُعتبر كنسيّاً جزءاً من الكنيسة، فالإيمان (فعل وجودي فردي، وليس إجراءات إنسانيّة تقوم بها الجماعة لإثبات وجود الله عبر الأدلّة الطقوسية والإيمانيّة)([11]).
هذا كلّه يؤكّد أنّ الإيمان يترك أثراً على السلوك والمواقف، فإذا لم يكن يملك تبريراً أخلاقيّاً أو على الأقلّ لا يملك ما يؤكّد مناقضة هذا الإيمان للواقع، فكيف له أن يخاطر بإيمان يعيد تشكيل أخلاقيّاته وسلوكيّاته ونمط عيشه بما قد يؤدّي إلى تورّطه فيما ينافي الأخلاق نفسها؟! هذا الأمر يجب التوقّف عنده.
3 ـ المسيحيّة من العينيّة إلى وثاقة الإيمان
المداخلة الثالثة: يبدو من كيركجارد أنّه لا ينفي الحقيقة العينية للمسيحيّة (الله ـ الإنسان)، لكنّه لا يمكن معرفتها بالعقل النظري، بل بالتوجّه الوجودي، وهذا موضوع يرجع لفضاء عميق تاريخيّاً، وربما تكون لعمانوئيل كانط (1804م) تأثيرات واضحة على كيركجارد فيه؛ فالإيمان عند كيركجارد سابق على الفهم، وليس العكس، وهذه نزعة مشهورة في التراث الديني عموماً، وحولها جدل كبير في المسيحية منذ القدّيس آنسلم (1109م) ومن قَبله؛ لأنّ الإيمان هو الذي يخلع الستار بيني وبين الحقيقة، لا أنّه يبدأ بعد خلع هذا الستار([12]).

السؤال الاستفهامي هنا هو: إذا نفى كيركجارد الحقيقة العينيّة للمسيحيّة ـ ولأيّ دينٍ آخر ـ فلا نناقشه في هذه المداخلة، لكنّه إذا اعتقد بالحقيقة العينيّة لها، فإنّ الذي خاض مغامرة الإيمان وانكشفت له الحقيقة حقّاً وبالفعل لا شأن لنا به، والسؤال: ما الذي يجب أن يقوم به الذي لم يخض التجربة بعد؟ من الطبيعي أنّ كيركجارد سوف يطالبه بخوضها وعدم تضييع الوقت بالتفكير الآفاقي المخارج، لكنّ كيركجارد لم يقل لنا كيف تأكّد بأنّها هي الحقيقة العينيّة؟ وكيف عرف أنّ تجربته الباطنيّة متماهية مع الحقيقة العينيّة وليست باقية في داخل ذاته ولا عينيّة لها سوى ذاتها بوصفها حالة نفسيّة؟ وبعبارة أخرى: ما هو التبرير الذي يمكن أن يقدّمه كيركجارد ليؤكّد لنا أنّ التجربة الأنفسية يقينيّة بعد أن أثبت لنا أنّ التجربة الآفاقية غير يقينيّة؟!
ربما اعتبر كيركجارد أنّه لا مجال للنقاش في قيمة التجربة الأنفسيّة، ولو بتصوّر أنّ الحقيقة فيها حاضرة؛ بما يشبه مفهوم الشهود المعنوي الحقيقي في العرفان الإسلامي، لكنّ تحقّق الإنسان بهذا الشهود إذا أعطى حقيقةً حضوريّة لا مجال للنقاش فيها، لكنّ السؤال يبقى في علامات وصولي لهذا الشهود، فهل أنّ مسيرة التجربة الشهودية غير قابلة لوقوع الإنسان في الخطأ، ثم تصوّر أنّه يعيش تجربة حضوريّة؟
وما ينتج عن تساؤلنا هذا هو أنّ سلوك الطريق الشهودي لا يتحرّر تماماً من مشاكل سلوك الطريق العقلي، فإذا كان العقل لو استقام لأوصل للحقيقة افتراضيّاً فإنّ العقل في تجربته العملية لا يوجد ما يؤكّد أنّه استقام عند تنشيطه وأنّه لا يقع في مشاكل ولو بفعل مؤثرات خارجيّة، وهكذا الحال في الشهود فإذا كانت هناك حقيقة شهوديّة حضورية غير حضور النفس عند صاحبها، فإنّ الصورة الافتراضية لهذا الموضوع لا تنفي أنّ الذين يخوضون التجربة قد يقعون في أخطاء بحيث يخيّل إليهم ما ليس بشهود شهوداً وما ليس بحقيقة حقيقة. كيف يمكن تجاوز هذه المشكلة؟ وإذا قلت لي بأنّ الحقيقة الشهوديّة لم يصل هؤلاء إليها فإنّني أقول لك بأنّ الحقيقة العقلية لم يصل إليها الناس بتجاربهم التفكيريّة بل أخطؤوها دون أن يعني ذلك هدماً لقيمة التفكير العقلي والتاريخي، بل الدراسات التاريخيّة إذا لم تتمكّن من إثبات التاريخ، فهذا لا يعني أنّها غير متطابقة في الجملة مع الحقيقة التاريخيّة.
ما اُريد أن أصل إليه هو أنّ هواجس كيركجارد القائمة على كيفيّة التديّن وعلى معايشة الإيمان يمكن لها أن تجتمع مع سؤال التفكير في الموضوع الإيماني، وإذا كان بناء الإيمان على العقل يضعه في مهبّ مخاطرة فقدان الإيمان، فإنّ بناء الإيمان على التجربة الذاتية (التصميم) يضعه في مهبّ مخاطرة لاعينيّة الإيمان. وإذا كان كيركجارد يريد نفي حصريّة الوصول للحقيقة بالعقل فاتحاً طريقاً آخر فهذا لا يعني أنّ العقل لم يعد طريقاً لها.
ما اُريد أكثر أن أركّز عليه هو أنّ استغلال كيركجارد لعناصر الضعف في بينة اكتشاف الحقيقة عقليّاً لا يعني أنّ بنية اكتشافها شهوديّاً وحضوريّاً لا تعاني هي الأخرى من مشكلة، فقد تُركت هذه المساحة دون تفكير فيما ظلّت سياط النقد ومباضع الجراحة متوجّهة نحو التجربة والحس والعقل بوصفها مصادر أو سبلاً للمعرفة.
إنّ تركيز كيركجارد على الحقيقة الوجودية للمسيحية وليست الحقيقة الخبرية أو المعلوماتية ليس أمراً مرفوضاً، لكنّ السؤال الأبرز هو في مديات الحصول على التجربة الوجودية الصادقة دون ممارسة تأمّل عقلي وتاريخي.. ليس أمام كيركجارد من سبيل لتفسير المسيحيّة سوى بأنّها التجربة الذاتية لا غير، ومن ثم لا توجد حقيقة عينيّة غير المشاعر التي يخوضها الفرد، وهذا يعني أنّ المشاعر هي الدين العيني، وحيث لا تفترق فلا فرق بين المسيحية والإسلام والبوذية وغير ذلك، وبهذا يفرض تساؤل نفسه: لماذا البحث عن المسيحيّة أصلاً؟ بل لماذا الحديث عن الله والسعادة الأبديّة والصليب وغير ذلك؟ بل ما الفرق بين الإيمان الديني وبين السلوك العرفاني المنفصل عن الله تماماً مثل بعض تيّارات (العرفان بدون الله) في العصر الحديث؟
كلمة أخيرة: فرديّة الإيمان والإحساس الروحي بالآخرين
ليس من شكّ في أنّ المحاولة المختلفة التي قام بها كيركجارد في فهم الإيمان في عمقه الوجودي الفردي، تركت تأثيراً كبيراً على الدين في الغرب، وأعادت فهم الظواهر الإيمانيّة، وتقويم السلوكيّات الدينية على مستوى الفرد والجماعة، بل تركت جهود كيركجارد تأثيرها على العلوم الإنسانيّة، وكما يقول المفكّر ريتشارد بورك هوفر، فإنّه (ينبغي عدم التقليل من شأن كيركجارد والمناخ الذي هيّأه لعلم النفس، وما انبثق من رحمِه من نظريّات ودراسات وطرائق بحث في التحليل والطبّ النفسي في القرن العشرين..)([13]).

ومن تأثيرات تفكير كيركجارد عزل الدين عن الحياة العامّة، وفقده قدرته على التأثير الاجتماعي، ولهذا يُبدي الدكتور الألماني جوترفرايد كونزلن ـ وهو يتكلّم عن خصخصة الدين ـ امتعاضَه من المآلات التي وصل إليها الدين في الغرب، بخسارته قدرته على التأثير، بل فقد دوره كقوّةٍ موجّهة للحياة بشكل عام على حدّ تعبير ماكس فيبر (1920م)، الأمر الذي أدّى للفصل النهائي بين المعتقدات الدينيّة والحقوق المدنيّة([14])، وهذا يعني أنّ التأثيرات الإيجابيّة لتفكير كيركجارد في داخل النفس الفرديّة الإنسانيّة تضعنا أمام انحسار، بل شبه تلاشي عجيب للدين من الحياة العامّة، ومن ثمّ فنحن أمام زوال كلّ السياقات الاجتماعوسياسيّة التي يمكنها أن توفّر للفرد اندفاعه نحو التجربة الدينيّة، وذلك بسبب هيمنة العلمانية ـ بما فيها نزعتها الأخلاقيّة ـ التي سمح لها بأن تكون قوّة موجّهة في الاجتماع البشري بينما رفض الدين أن يكون كذلك.
وعليه، فإذا أردنا أن نسير في إطار إحساس الفرد بالآخرين، وفي سياق إنساني، فهل يحقّ لمثل كيركجارد أن يخرج الدين من السياق الاجتماعي، فيفقد الفرد انبعاث طاقته الإيمانية الكامنة؟ وهل إذا تركنا اللادينية تتحرّك في سياق اجتماعي ورفضنا تحويل الدين إلى منظومة اجتماعيّة، نكون قد ضمنّا ـ من موقع الإحساس الإنساني ـ سلامة الحياة الروحيّة للأفراد أو لا؟
لسنا نختلف مع كيركجارد في ضرورة تغيير شكل الحضور الاجتماعي والسياسي للدين، وفي إفراطيّة الطقوسية الاحتفاليّة التي غيّبت الهويّة الحقيقيّة للإنسان المتديّن لصالح هويّة مغلوطة مستَلبة، وأنّ تجربة الألفيّتين الماضيتين في المسيحيّة واليهوديّة والإسلام باتت تتطلّب إعادة النظر في شكل حماية الوجود الاجتماعي للدين دون اللجوء إلى تنميط الدين وسلبه هويّته الباطنيّة المعنويّة للفرد، لكنّ الغرق في فردانيّة الدين لن ينتج سوى تفتيت السياقات المحيطة المساهمة في بعث الروح الإيمانية في الأفراد، وليس أمام كيركجارد هنا إلا أن يقول ـ كما قالت البروتستانتيّة الكالفينية في القرن السادس عشر الميلادي ـ بنظريّة التقدير الإلهي المسبق والانتخاب الإلهي للأفراد الصالحين والفاسدين (السعيد سعيدٌ في بطن أمّه والشقيّ شقيٌّ في بطن أمّه).
ــــــــــــ
([8]) انظر: محسن جوادي وشيماء الشهرستاني، تحليل النزعة الإيمانية عند جون بيشوب، مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، السنة السادسة عشرة، شتاء وربيع، 2012م، العدد 49 ـ 50: 271.
([9]) انظر: المصدر نفسه: 272، 273.
([10]) انظر موقف كيركجارد من الكنيسة: نعيمه بورمحمدي، ايمان واخلاق مقايسه رويكرد الاهيات كرکگور واشاعره متقدّم: 33 ـ 45، نشر دانشگاه اديان ومذاهب، إيران، الطبعة الأولى، 2011م.
([11]) قحطان جاسم، سورن كيرکگورد في نقد الدين الجماهيري: 50، منشورات ضفاف والاختلاف، لبنان، الطبعة الأولى، 2015م.
([12]) انظر: نعيمه بورمحمدي، الإيمان عند كيركيغارد، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 51 ـ 52: 165 ـ 166.
([13]) ريتشارد بورك هوفر، سورن كيرکگورد وحضور الذات في وهاد الوجود، ترجمة: أسامة الشحماني، مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة، العدد 55 ـ 56: 55.
([14]) جوترفرايد كونزلن، مأزق المسيحيّة والعلمانيّة في أوروبا (شهادة ألمانيّة): 25 ـ 28، تقديم وتعليق: محمد عمارة، ضمن سلسلة التنوير الإسلامي الرقم 44، نشر دار نهضة مصر للطباعة، الطبعة الأولى، 1999م.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة