مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

سرُّ الغائب الموجود

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
بعد قبول قضية العمر الطويل للإمام المهدي عجل الله فرجه، يعتبر الحديث عن أسباب وجدوى طول غيبة الإمام من الأمور التي يطرح حولها الكثير من الأسئلة، فيقال على سبيل المثال: لماذا لا يظهر الإمام المهدي عجل الله فرجه ليحل العدل في الكون؟ لماذا لا يظهر عجل الله فرجه مع أن الفساد والظلم أصبحا كبيرين؟ ولماذا كانت غيبته طويلة إلى هذا الحدّ؟ هل ينتظر أمراً ما؟ وفي النهاية ما هو سرّ هذا الغياب الطويل؟ 
ولو دققنا النظر حول هذه الأسئلة لوجدنا أنها لا تقتصر على المعتقِد الشيعي، بل إنها أسئلة يطرحها كافة المعتقدين بظهور المصلح العالمي الذي سيظهر في يوم من الأيام ليملأ الأرض عدلاً. وبعبارة أخرى، لا شكّ أن مسألتي طول العمر وفلسفة وجود الإمام عجل الله فرجه في زمن الغيبة من الأسئلة الموجهة إلى الشيعة، إلا أن تأخير الظهور مسألة تتعلق بكافة المعتقدين بالمصلح العالمي. أما الجواب فهو على نحوين، مختصر ومفصل، وأما الجواب المختصر فهو أن وجود قائد ثوري في المجتمع لا يكفي لإيجاد ثورة وتحوّل في جميع أنحاء العالم، بل يحتاج الأمر إلى استعداد عام؛ وهذا ما لم يحصل حتى الآن. لا بل بمجرد الاستعداد يصبح القيام قطعياً.  وتوضيح هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل:
أولاً: إن ثورة الإمام المهدي عجل الله فرجه تشبه ثورات وبرامج كافة الأنبياء عليهم السلام لجهة تحققها بالوسائل الطبيعية، وهذا يعني عدم وجود إعجاز على الإطلاق. ولهذا السبب نلاحظ أن الأنبياء عليهم السلام المتقدمين كانوا يعملون بجد لإيجاد الاستعداد المادي والمعنوي لأجل الوصول إلى أهدافهم، فكانوا لا يجلسون على أمل حصول معجزة. وهذا يعني أن حكومة الحق والعدل تتحقق من خلال الوسائل المادية والمعنوية الضرورية. وبعبارة أخرى، لا يأتي المهدي عجل الله فرجه بدين جديد، بل سيقوم بإجراء الحدود الإلهية التي لم تجرَ. إن رسالته لا تقتصر على الإبلاغ والإنذار والتربية والتذكير، بل رسالته عبارة عن إجراء كافة الأصول التي تنهي الظلم والفساد في ظل حكومة العلم والإيمان، وهذا لا يتحقق من دون استعداد.
ثانياً: يتضح مما تقدم سبب الاعتقاد بعدم وجود الاستعداد الكافي، وعلى الأقل هناك أنواع من الاستعداد لا بد أن تتحقق.

* الاستعداد للقبول
ينبغي أن يُدرك البشر وبشكل كافٍ سوء هذا الوضع، وأن يلمسوا ضعف وعجز القوانين البشرية عن إيجاد العدالة الاجتماعية. وينبغي أن يدركوا أنّ حلّ مشاكل العالم لا يتأتّى من خلال القوانين البشريّة الماديّة. وينبغي أن يشعروا بأن الأزمات الحالية وليدة الأنظمة الموجودة العاجزة عن حَلّها، وأن يدركوا مقدار الحاجة إلى أصولٍ وإلى نظامٍ جديد يعتمد القيم الإنسانية والإيمانية والعواطف البشرية والأخلاقية للوصول إلى هذا الهدف الكبير. 
 وعلى البشريّة أن تصل إلى مستوى تدرك فيه أنّ التقدم التكنولوجي لا يعني دائماً التقدّم البشري ولا يعني سعادة البشر، لأن التكنولوجيا لا تؤدي إلى السعادة إلا إذا حصلت في ظل الأجواء الإنسانية والمعنوية. تتحدث بعض الروايات حول كيفية حياة البشر في عصر ظهور المهدي عجل الله فرجه حيث يستفاد منها أن التكنولوجيا والصناعة بالأخص مسألة الحمل والنقل والتواصل بين القارات الكبيرة ستؤدي كلها إلى حل مشكلتي الزمان والمكان بشكل كبير. طبعاً قد يحصل هذا الأمر على أثر تقدم صناعي كبير في ذاك الزمان إلا أنه نوع من الاستعداد العلمي.

* نواة جيش الإمام عجل الله فرجه
وفي النهاية لا بد من وجود مجموعة ولو كانت قليلة تشكل النواة الأساس لجيش الإمام المهدي عجل الله فرجه. وهذا يعني ضرورة تربية مجموعة من الأفراد تتصف بالمعرفة والشجاعة والوفاء والإيثار، وهذا يحتاج إلى الزمان.
أما من الذي سيتكفل بإيجاد هذه المجموعة؟
فيجب الالتفات إلى أن مسؤولية هذا العمل تقع على عاتق القائد الكبير الذي يقوم بهذا العمل سواء بشكل مباشر أم غير مباشر. تتحدث بعض الروايات عن أن أحد أسباب طول الغيبة، امتحان الناس واختبار الأصلح. أما المقصود من الامتحان فهو تربية الاستعدادات وإظهار القدرات. وبعبارة أخرى الهدف من الامتحان التربية والتكامل. فلسفة وجود الإمام عجل الله فرجه أثناء الغيبة من جملة الأسئلة التي تطرح حول عقيدة الشيعة في الإمام المهدي عجل الله فرجه:
الإمام عجل الله فرجه هو قائد وإمام، فكيف يمكن للإمام الغائب أن يلعب دور القائد فيما وجوده بينهم سيكون مفيداً إذا كان على اتصال مستمر مع أتباعه؟ وبعبارة أخرى إن حياة الإمام عجل الله فرجه في مرحلة الغيبة هي حياة خاصة، وليست حياة اجتماعية، فما هي الفائدة العامة للناس إذاً من وجود هذه الذخيرة الإلهية؟ وهل مفهوم غياب الإمام عجل الله فرجه يعني أن وجوده عبارة عن روح غير مرئية أو أمواج خفية؟ وهل يتلاءم هذا الأمر مع العلم؟  لكل من هذه الأسئلة الهامة إجابات شافية إذ يجب القول وبوضوح إن غياب الإمام عجل الله فرجه لا يعني أن له وجوداً غير مرئي في عصر الغيبة، بل للإمام حياة طبيعية عينية وخارجية ويميزه العمر الطويل، لا بل الإمام عجل الله فرجه يتحرك في المجتمع ويعيش في أماكن متعددة.
الإمام عجل الله فرجه يعيش في المجتمع إلا أنه مجهول الهوية، وفرق كبير بين غير المرئي وغير المعروف. نعود إلى العنوان الأساس، فإن فَقْدَ هذه الحياة مقبول عند الشخص العادي إلا أنه غير مقبول عند القائد. هذا وتتحدث الروايات حول الفائدة من وجود الإمام الغائب: عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال: "إي والذي بعثني بالنبوة إنهم ينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس إذا جلّلها السحاب" (1). طبعاً فوائد أشعة الشمس كثيرة حيث تحرك دورة الحياة عند الحيوانات والإنسان والنباتات وذلك على مستوى النمو، التغذية، التوليد، الحس، الحركة، حركة الدم في العروق،... والكثير الكثير من الفوائد التي تترتب على أشعة الشمس سواء وصلت بشكل مباشر أم غير مباشر إذ يؤدي عدم وجودها إلى الظلام والموت. وهذه الفوائد تحصل عند وصول شعاع الشمس وإن كان بشكل غير مباشر. والدليل على ذلك أن المناطق التي تختفي فيها الشمس وراء الغيوم لمدة ستة أشهر، تبقى آثارها التي أشرنا إلى بعض منها موجودة، حيث نشاهد الحياة والنمو والطاقة والنبات والفاكهة... وهذا يعني أن الشمس المختفية وراء الغيوم تحمل فوائد أيضاً.
هذا هو حال "المشبه به" أي الشمس، ولكن ما هو حال "المشبه" أي القائد الإلهي في مرحلة الغيبة؟ الحقيقة إن للأشعة المعنوية لوجود الإمام عجل الله فرجه آثاراً عديدة عند وجودها خلف غيوم الغياب، نفهم من خلالها فلسفته الوجودية على الرغم من عدم حضوره وقيادته المباشرة.  وهذه الآثار عبارة عن:

* إضفاء الأمل
إن وجود قائد إلهي في أي معركة هو سبب للأمل وباعث للحرارة في عروق الأتباع حيث يشكل الدافع لمزيد من العمل والحركة. فإذا ما انتشر خبر مقتل القائد في الواقع فإن الأمر سيؤدي إلى تفرّق الجيش مهما كان عظيماً. ورئيس المجتمع أو الدولة يبقى سبباً في حياة وحركة وانتظام وهدوء المجتمع حتى لو كان مسافراً أو مريضاً، وينقلب الأمر عند انتشار خبر وفاته. ووجود هذا القائد، سبب وجود الأمل والاستعداد عند المنتظرين. نضيف إلى هذا الأمر ما ذكرته بعض الروايات من أن الإمام عجل الله فرجه يراقب أعمال أتباعه في مرحلة الغيبة ويتعرف إلى أحوالهم وهذا يجعل الأتباع في حالة يقظة دائمة.

* الحفاظ على دين الله
يشير الإمام علي عليه السلام في إحدى خطبه إلى ضرورة وجود القائد الإلهي في كل عصر وزمان ويقول: "اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته" (2). إن انقضاء الزمان واختلاط السلائق والأفكار الشخصية بالأمور الدينية ووجود اتجاهات مختلفة ذوات ظواهر خادعة ووجود مذاهب منحرفة وامتداد أيدي المفسدين إلى المفاهيم السماوية، كل ذلك يساهم في تغيير بعض هذه المفاهيم والنيل من أصالتها.
ـــــــ
(1) تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج 1، ص 499.
(2) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 4، خطبة رقم 147، ص 37.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة