قرآنيات

التفكير في التصور القرآني (2)

 

الشهيد مرتضى مطهري
الإنسان الذي تعرف على زهرة، بأن تعرف على جذرها، وساقها، وأوراقها، وكيف تتغذى، وتتنفس، وتنمو، وتتفتح، وتثمر، مثل هذا الإنسان، العالم بهذه الأمور، يمكنه التفكير في هذه الزهرة، وبالقدرة والعلم والحكمة والتدبير والتقدير المحكم في تلك الزهرة، أما ذلك الذي لا يعرف من الزهرة إلا شكلها وحجمها فحسب، ولم يعرف الأسرار المخبوءة في أعماقها، لا يتمكن من التفكير حولها، ومدى علاقتها بالتقدير والتدبير الحاكم في الكون.
إن رصيد الفكر هو العلم، ويقولون بأن الأمر بالشيء أمر بمقدمته، وبما أنه لا يمكن التفكير بدون وجود العلم والمعلومات، إذن فالأمر بالتفكير يعني الأمر بالرصيد الذي يسنده، أي الأمر باكتساب المعلومات الصحيحة والمثمرة، حول المخلوقات، ونستهدف من ذلك كله، القول بأن القرآن الكريم، لم يحث الإنسان على التفكير فحسب، بل إنه حدد موضوعات التفكير، في هذه الآية الشريفة، وغيرها من الآيات التي يحفل بها القرآن الكريم. 

انحراف المسلمين عن أسلوب التفكير الاسلامي
ومما يؤسف له أن حدثت بعض الأحداث، أدت إلى انحراف المسلمين عن الاتجاه الذي رسمه القرآن الكريم، ولكن قد وجد بعض الأفراد، وهم أقلية، تعرفوا على روح التعاليم القرآنية، وتجددت لهم موضوعات التفكير ومعالمه، وبالفعل قد فكروا حولها، وهؤلاء هم الذين يعدون اليوم من مفاخر المسلمين، بل من قمم البشرية جمعاء، ولكن الأغلبية، قد انحرفوا عن أسلوب التفكير القرآني واندفعوا للبحث والجدل العقيم حول موضوعات، كما لم يحث القرآن الكريم عليها، فإنه نهى عن التفكير فيها، وذلك لأنها لغو، وعبث، ولا ثمرة فيها، والذي يؤمن بالقرآن الكريم يلزمه التجنب عن الأعمال العابثة، غير المثمرة، (والذين هم عن اللغو معرضون)، وحتى لو تقنع اللغو بقناع البحث العلمي، والبحث الديني.
 

المناقشات الكلامية
 إذا ألقينا نظرة على مؤلفات المتكلمين، والموضوعات التي دار البحث والجدل حولها، قروناً طويلة، حيث أشغلت الكثير من الأذهان، واستنزفت الكثير من القوى والثروات ونتيجة لذلك ذهبت الكثير من الطاقات البشرية سدى، وبحثنا عن مدى علاقتها بالموضوعات التي حث القرآن الكريم على التفكير فيها والتحقيق حولها، لرأينا بأنه لا توجد أي قرابة وعلاقة بينهما، فقد دار البحث والجدل سنوات طويلة، حول هذه الموضوعات التي لا تعتمد على أساس إسلامي، وأما الموضوعات التي حث القرآن الكريم على البحث والتحقيق حولها، فلا تزال محتفظة بحيويتها وقوتها، حتى جاء آخرون، وأخذوا على عاتقهم القيام بهذه المهمة، واندفعوا برغبة جارفة للبحث حولها، فأصبحت لهم المكانة الرفيعة، في الدنيا، ومن المخجل حقاً لنا أن نكون ملزمين، بالتعلم منهم، لنتلقى من غيرنا دروس القرآن الكريم وتعليماته الحية.
وقد ذكرنا سابقاً، أن الإنسان كلما كان أكثر دقة وعمقاً في التفكير والبحث حول الموجودات في العالم، سيكتشف الانسجام والترابط الموحد، والنظام الواحد، والتلاحم الذي يربط بين أجزاء العالم ومكوناته، وسيعرف أن كل موجود، بل وكل ذرة، وإن امتلكت طاقة، وحركة معينة، ولكنها ليست مستقلة في مسيرتها، بل إنها مترابطة مع سائر الأجزاء، فهناك علاقات وثيقة تشد بين الأجزاء كلها، ولكل جزء هدف معين، في نطاق هذه المجموعة، ومهمة في هذا المدار، وبهذه الرؤية الموحدة، يكون للعالم حكم الوحدة الواحدة.

الدليل على وجود الصانع ووحدته في القرآن الكريم
ويجدر بنا أن نشير إلى هذه الملاحظة:
إن الدليل القرآني الذي يدل على وجود الله هو بنفسه الدليل على أنه واحد، والمتداول بين الفلاسفة أن يعقدوا لكل منهما بحثاً مستقلاً، فهناك بحث لإثبات وجود الواجب، وبحث آخر لتوحيده، وقد قلدهم في ذلك المتكلمون الإسلاميون.
ولكن الأمر ليس كذلك، في القرآن الكريم، فلم يذكر في موضع مستقل، الدليل على وجود الخالق، وواجب الوجود، والذات القائمة بنفسها، ولا تعتمد في ذاتها على غيرها، وفي موضع آخر، يستعرض الدليل على وحدة الخالق وواجب الوجود، فليس الأمر كذلك، وهذه ملاحظة لها أهميتها في القرآن الكريم، فقد عرف المنطق القرآني ذات الله، بصورة لا يمكن أن يفرض لها ثان، وقد أشير لهذه الفكرة في الآيات القرآنية، بنحو الإشارة، ولكن الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، قد أوضح هذه الفكرة ووسعها، وهذه الفكرة بنفسها، من المعارف القرآنية الكبيرة، والتي تدلّ بوضوح على إعجاز القرآن الكريم، والإمام (ع) هو الذي كشف هذا الاعجاز، واكتشاف الإعجاز بنفسه إعجاز آخر.
ففي حديث، قد سئل أمير المؤمنين (ع) (هل عندكم شيء من الوحي؟ أجاب: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماُ في كتابه) يريد الإمام (ع) أن يقول، بأن هذه الأفكار الكبيرة التي ينطق بها، نابعة في واقعها من فهمه للمضامين القرآنية السامية.

وقد ذكرت، أن النظام الحاكم في الوجود، يدل على الانسجام والترابط بين الموجودات، بحيث يجعل من أجزاء العالم كلاً واحداً، ولكن يمكن أن يوجد ترابط ووحدة وانسجام بين أجزاء كل مجموعة ويمكن أن لا يتوافر ذلك، ونوضح هذه الفكرة بالمثال التالي:
قطيع الغنم يؤلف مجموعة لا يوجد أي ترابط وانسجام بين أجزائها، فكل واحد من الغنم يتخذ لنفسه طريقاً مستقلاً، يسير فيه، ويأكل لوحده وينام وحده، ويشكل لنفسه بنية معينة، ووحدة خاصة، ولكن الانسجام والترابط بين القطيع يمكن ملاحظته بحركته الموحدة بأمر من الراعي وتوجيهه.
وكل واحد من هذه الشياه، يتكون بدنه من ملايين بل والوف الملايين من الخلايا الحية، ومجموعة من هذه الخلايا تؤلف جلده، ومجموعة أخرى تشكل بناء عضلاته ومجموعة أخرى تشكل بناء قلبه، وأخرى لعينه، وهكذا، فكما أن كل مجموعة منها تمارس فعاليات ونشاطات مختلفة وعديدة، ولكل منها في حد ذاتها مهمة خاصة، وهدف معين وكل منها تجهل الأخرى، فخلية الدم جاهلة بوجود خلية الأذن، وخلية الأذن لا تعلم بوجود خلية الأعصاب، فكل خلية لا تعلم بأنها مسخرة ومستخدمة لمجموعة موحدة، وهي الشاة، كما أن لذلك الكائن الحي (الشاة) في نفسه روحاً وحياة، وهدفاً، أشمل وأسمى، فالهدف الذي تنشده كل مجموعة من هذه الخلايا، ضمني، ومقدمي، ووسيلة لذلك الهدف الأشمل والأسمى للحيوان ككل.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة