مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

المعاد ومفهوم الحياة (2)

 

الشيخ ناصر مكارم شيرازي
محكمة الضمير مثال لمحكمة يوم القيامة
لما كانت قضية الحياة بعد الموت ومحكمة يوم القيامة العظيمة تعتبر قضية جديدة على إنسان يعيش في هذه الدنيا الضيقة المحدودة، فإنَّ الله أوجد لنا مثلاً مصغراً لتلك المحكمة في هذه الدنيا وهي محكمة الضمير، إلا أنَّها كما قلنا صورة مصغرة لها.
دعونا نوضح هذا الموضوع:
يحاكم الإنسان على الأعمال التي يقوم بها في عدد من المحاكم. أوّلها هي المحاكم البشرية العادية، بكل ما فيها من ضعف ونقص وانحرافات.
وعلى الرّغم من أنَّ لهذه المحاكم بعض التأثير في تخفيف نسبة ارتكاب الجرائم، إلا أنَّ الأسس التي أقيمت عليها هذه المحاكم لا تتكفل تحقيق العدالة كاملة، ولا يمكن أنْ ينتظر منها ذلك. فالقوانين الموضوعة والقضاة الفاسدون وتفشي الرشوة والمحسوبيات والمنسوبيات والمناورات السياسية وآلاف الأُمور الأخرى تؤدي كلها إلى إضعافها إلى درجة يمكن القول معها بأنَّ عدمها خير من وجودها، وذلك لأنَّ وجودها يساعد على تنفيذ مآرب المتنفذين المشؤومة.
وحتى لو كانت قوانينها عادلة، وقضاتها متقين وواعين، فإنَّ هناك الكثير من المجرمين القادرين على إخفاء معالم جرائمهم، أو الماهرين الذين يستطيعون تزييف المستندات والأدلة بحيث لا يجد القاضي طريقه بوضوح، فيجردون القوانين بذلك من محتواها.
المحكمة الثانية التي يحاكم فيها الإنسان هي محكمة «جزاء الأعمال».


إنَّ لأعمالنا آثاراً ونتائج تصيبنا على المدى القريب أو البعيد. وإذا لم يكن هذا حكماً عاماً، فإنَّه يصدق في الأقل بالنسبة لكثير من الناس.
لقد رأينا حكومات شيدت حكمها على الظلم والجور والاعتداء ولم تأب من ارتكاب أي جريمة شاءت، ولكنها في النهاية وقعت في فخاخ نصبتها بنفسها لنفسها وسقطت في شباك نسجت خيوطها بيدها، فحاقت بها ردود أفعالها، فانهارت وتلاشت حتى لم يبق لها أثر.
ولما كانت نتائج الأعمال هي العلاقة بين العلة والمعلول والعلائق الخارجية، فقلما استطاع أحد أنْ ينجو من مخالبها بالتزوير والتزييف، كما يفعلون في المحاكم العادية. ولكن كل ما في الأمر أن هذه المحاكم ليست عامّة وشاملة، ولهذا فهي ليست قادرة على جعلنا في غنى عن محكمة يوم القيامة.
أمّا المحكمة الثالثة، وهي أدق وأقسى من محاكم النوع الثاني، فهي محكمة الضمير.
وفي الواقع، كما أنَّ المنظومة الشمسية بنظامها العجيب قد تمثلت مصغرة جداً في قلب الذّرة، كذلك يمكن القول بأنَّ محكمة يوم القيامة قد تمثلت بشكل مصغر في داخلنا.
إنَّ في أعماق الانسان قوة غامضة يطلق عليها الفلاسفة اسم «العقل العملي»، ويسميها القرآن «النفس اللوّامة»، ويصطلح عليها المعاصرون باسم «الضمير» أو «الوجدان».
فما أنْ يقوم الانسان بعمل ما، خيراً كان أم شراً، حتى تعقد هذه المحكمة جلسة بدون ضوضاء ولا تشريفات، ولكن بكل جد ووفق الأصول، وتبدأ المحاكمة، ويصدر الحكم، ثواباً أو عقاباً، يتم تنفيذه بهيئة آثار نفسية.
قد يكون عقاب المجرمين أحياناً من الشدة والقسوة بحيث يتمنى المجرم الموت ويستقبله بكل ترحاب ويفضله على الحياة، ويكتب في وصيته: انتحرت تخلصاً من عذاب الضمير!
وأحياناً يكون الثواب على عمل الخير كبيراً يشيع الفرحة والسرور في نفس فاعله ويضفي عليه حالة من الاطمئنان والهدوء النفسي مما يصعب وصف ما فيه من العذوبة واللذة.


إنَّ لهذه المحكمة خصائص معينة:
1- في هذه المحكمة قاضيها وشاهدها ومنفذ أحكامها والمتفرج فيها واحد، وهو الضمير الذي يشهد ويقضي ويصدر الحكم ثمّ يشمر عن ساعد الجد وينفذ الحكم.
2- في هذه المحكمة بخلاف ما يجري في المحاكم العادية التي يكثر فيها الضوضاء والمظاهر، وقد تطول فيها محاكمة قضية واحدة سنوات طويلة- تجري المحاكمة بسرعة البرق في أكثر الحالات إلا إذا اكتنف القضية بعض الغموض مما يتطلب بعض الوقت لفحص أدلة القضية وإزاحة حجب الغفلة عن نظر القلب، ولكن بعد التأكد يكون صدور الحكم قطعياً.
3- الحكم في هذه المحكمة يتم في مرحلة واحدة، فلا استئناف ولا تمييز، بل هو حكم نهائي وقاطع.
4- هذه المحكمة لا تصدر أحكام العقوبات فقط، بل هي تحكم بالجزاء والإثابة. أي إنَّها محكمة تنظر في قضايا المجرمين والمحسنين معاً، فتعاقب المسيء وتثيب المحسن.
5- عقوبات هذه المحكمة لا تشبه عقوبات المحاكم العادية، إذ ليس فيها سجون حقيقية، ولا سياط للجلد، ولا أعواد للشنق، ولا محرقة للحرق، ولكن عقابها يكون أحياناً حارقاً وسجنها قاسياً بحيث إنَّ الدنيا على سعتها تضيق بالإنسان، كما يضيق به سجن انفرادي في سجن رهيب.
وعليه، فإن هذه المحكمة لا تشبه أياً من المحاكم العادية، بل هي من نوع محكمة يوم القيامة. وهذه المحكمة من العظمة بحيث إنَّ القرآن يقسم بها كما يقسم بمحكمة المعاد، فيقول:

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [سورة القيامة، الآيات 1- 4]
بديهي أن هذه المحكمة، لكونها دنيوية على كل حال، فيها من النقائص ما لا يجعلنا نستغني عن محكمة يوم القيامة، وذلك:
1- لأنَّ نطاقها ضيق لا يستوعب كل شيء، بل تتناسب مع نطاق تفكير الإنسان نفسه وإدراكه.
2- هنالك أشخاص على درجة من المكر والدهاء بحيث إنَّهم يستطيعون أنْ يخدعوا حتى ضمائرهم ويحرفوها.
3- قد يكون نداء الضمير في بعض المجرمين من الضعف بحيث إنَّه لا يصل إلى مسامعهم.
وهكذا يتبين لنا أنَّ وجود المحكمة الرابعة، محكمة يوم القيامة، أمر لا بدّ منه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة