مقالات

فاطمة جبل الصمود (1)

 

السيد منير الخباز
﴿قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾
انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محورين:
المحور الأول: ارتباط الآية بالسيدة الزهراء.
ما هو وجه الارتباط بين مضمون الآية وبين السيدة فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها وعلى آلها الطيبين الطاهرين»؟ لكي يتضح لنا الارتباط بين مضمون الآية المباركة وبين مقام السيدة الزهراء   نتعرض هنا إلى أمرين:
الأمر الأول: مراحل وجود السماوات والأرض.
نلاحظ أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن وجود السماوات والأرض يعبّر بعدة تعبيرات، تارة يقول: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، تارة يقول: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، تارة يقول: ﴿قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾، تارة يقول: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾، فما هو الفرق بين هذه العناوين؟ هل الفرق بين هذه العناوين - عنوان بديع، عنوان فاطر، عنوان خالق، عنوان نور السماوات والأرض - فرق مجازي أم أن هناك مضمونًا حقيقيًا يعبّر عن اختلاف هذه العناوين؟ وجود السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من وجود الكائنات الحية، وجود السماوات والأرض مر بأربعة مراحل، كل عنوان يعبّر عن مرحلة من هذه المراحل.
المرحلة الأولى: مرحلة الابتداع.
أول مرحلة أنه ابتدع السماوات والأرض من دون مثال يحتذى به، من دون برنامج يقتدى به، الله تبارك وتعالى ابتدع السماوات ابتداعًا أمريًا، لم يسبقها برنامج، لم تسبقها خطة، لم يسبقها مثال يحتذى به في إيجاد السماوات والأرض. هذه المرحلة، مرحلة الابتكار، مرحلة أن لم يسبقها مثال، هذه المرحلة عبّرت عنها السيدة الزهراء   في خطبتها بقولها: ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها“، لا يوجد برنامج سار عليه، المسألة مسألة ابتداع وابتكار، وقد عبّر عن هذه المرحلة ببديع السماوات والأرض.
المرحلة الثانية: مرحلة التقدير.
هذه المرحلة هي التي عبّر عنها بعنوان الخلق، الخلق مساوق للتقدير، لا يوجد خلق بدون تقدير، عندما يعبر القرآن عن الخلق فهناك حدود، هناك أقدار، هناك مبدأ، هناك منتهى، الخلق دائمًا مساوق للأقدار، مساوق للحدود، كما قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾، هناك أقدار وحدود، فالخلق يعني التقدير. عندما أراد أن يتحدث عن المرحلة الثانية - ألا وهي مرحلة التقدير، مرحلة وضع الحدود، وضع المقادير - قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، ستة أيام، هذا هو القدر، هذا هو الحد.
المرحلة الثالثة: مرحلة الفطر.
﴿قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾، ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾، ما هو معنى فطر السماوات والأرض؟ هذه المرحلة - مرحلة الفطر التي تعلقت بالسماوات والأرض - إشارة إلى جعل الأصل، عندما يقال: فطره، أي: جعل له أصلًا ينبثق منه، جعل له أصلًا ينطلق منه، الفطر يختلف عن الخلق، الخلق يعني وضع الحدود، الفطر يعني جعل مادة ينطلق منها شيء، جعل أصل ينبثق منه الشيء.
لاحظوا مثلًا قوله تعالى في آية أخرى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾، عندما أوجد الإنسان جعل له أصلًا، هذا الأصل الذي ينطلق منه الإنسان هو أصل التوحيد، خُلِق الإنسان وهو يعيش أصلًا لكل حركاته، لكل سكناته، ذلك الأصل الذي ينطلق منه الإنسان في مسيرته يسمى بفطرة التوحيد، ”كل مولود يولَد على الفطرة إلا أن يكون أبواه يهوديين فيهوّدانه أو مجوسيين فيمجّسانه“، إذن الإنسان له أصل، وهو أصل التوحيد، هذا الأصل عبّر عنه القرآن بأنه فطرة، فالفطر هو جعل أصلٍ ينبثق منه الشيء.
السماوات والأرض عندما أراد الله تبارك وتعالى إيجادها وخلقها جعل لها أصلًا تنبثق منه، جعل لها أصلًا تنطلق منه، ما هو ذلك الأصل؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾، الماء هو المصدر، هو الذي به تحقّق انفطار السماوات والأرض، إذن الماء مبدأ الحياة هو أصل السماوات والأرض، وبه تحققت ظاهرة الانفطار، انفطار السماوات والأرض.
المرحلة الرابعة: مرحلة الظهور.
الله جل وعلا له تجليان: تجلٍّ أمري وتجلٍّ خلقي. التجلي الأمري: أول تجلٍ تجلى به الله عز وجل هو نور محمد  ، هو العقل الواحد، ”أول ما خلق الله العقل“، هذا هو التجلي الأول، هذا تجلٍ أمري. التجلي الآخر: التجلي الخلقي، وهو عبارة عن أنه ملأ السماوات والأرض بعجائب قدرته، وبمظاهر حكمته، فلما امتلأت السماوات والأرض بمظاهر حكمته وبديع قدرته صار هذا تجليًا آخر لله عز وجل، وهذا ما يسمّى بالتجلي الخلقي، وهذا التجلي الخلقي - ظهور آياته، ظهور قدرته، ظهور حكمته في السماوات والأرض - عبّر عنه بالنور، ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾. إذن، وجود السماوات والأرض مرَّ بمراحل أربع، والقرآن عبّر عن كل مرحلة بعنوان يناسب تلك المرحلة.

 

الأمر الثاني: علاقة مراحل وجود السماوات والأرض بأهل البيت  .
نحن ذكرنا أنَّ الله عز وجل أول ما خلق وأول ما أوجد وأول تجلٍ تجلى به هو نور محمد وآله، ”خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين“، مادة الكون كله مادة نورية، هذه المادة النورية محمدية فاطمية علوية حسنية حسينية، هذه المادة النورية كل مرحلة من هذه المراحل الأربع ارتبطت بنوع من هذه الأنوار، كل مرحلة من هذه المراحل ارتبطت بلون من هذه الألوان.
المرحلة الأولى: مرحلة الابتداع والابتكار ارتبطت بنور محمد  ، فتحقق بذلك أن الله محمود، لأن المحمود هو الذي يكتسب أعلى المقامات وأعلى الدرجات، أعلى المقامات أنه تبارك وتعالى ابتكر السماوات والأرض بلا مثال يحتذى به، فكان بذلك المحمود، ومن هذه المحمودية اُشْتُقَّ اسمُ محمد  .
وفي المرحلة الثانية: ألا وهي مرحلة التقدير، الله عندما وضع الحدود للسماوات والأرض ووضع الأقدار، أيضًا ربط هذه المرحلة بنور معين، ربط هذه المرحلة بنور علي بن أبي طالب  ، لوجود ترابط، التقدير هو عبارة عن التدبير، والتدبير يناسب مقام الإمامة، يناسب مقام الولاية، لذلك رُبِطَت مرحلة التقدير باسم علي  ، فتحقق بهذه المرحلة العلو له تبارك وتعالى، فكان الأعلى، ومن علوه اُشْتُقَّ اسم علي  .
ثم جئنا للمرحلة الثالثة: وهي مرحلة الفطر، أراد أن يجعل أصلًا لهذه السماوات والأرض، أصلًا تنطلق منه، وذلك الأصل مبدأ الحياة، فلما جعل مبدأ الحياة للسماوات والأرض كان ذلك فطرًا لها، ومن هذا الفطر ارتبط وجودها بنور فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها»، فكان هو الفاطر، وكانت هي فاطمة الزهراء.
والمرحلة الرابعة: مرحلة ظهور قدرته، عجائب حكمته، عجائب آياته جل وعلا، في هذه المرحلة تحقق الحُسن والإحسان، فاشتق من حسنه وإحسانه اسم الحسن والحسين، فلذلك نحن عندما نقرأ الدعاء، هذا دعاء شريف وارد عن أهل البيت  ، نجد الدعاء مرتبطًا بمراحل الوجود: ”اللهم إني أسألك بمحمد وأنت المحمود، وبعلي وأنت الأعلى، وبفاطمة وأنت فاطر السماوات والأرض، وبالحسن وأنت المحسن، وبالحسين وأنت قديم الإحسان، وبأهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين“. إذن، هناك ارتباط بين مضمون الآية التي قرأناها وبين مقام فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليها وآلها».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة